اسم الکتاب : مطالع البدور ومنازل السرور المؤلف : الغزولي الجزء : 1 صفحة : 99
يقرب حب الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
فداخلني من الطرب ما لا مزيد عليه إلى أن عاجلني السكر فلم استيقظ إلا بعد المغرب فعاودني فكري في نفاسة هذا الحجام وحسن أدبه وظرفه وكيف اقتضاني من الغناء ما أراد أن يسليني به فقمت وغسلت وجهي وأيقظته وأخذت خريطة كانت صحبتي فيها دنانير كثيرة لها قيمة فرميت بها إليه وقلت له استودعك الله فأني ماض من عندك وأسألك أن تصرف ما في هذه الخريطة على بعض مهماتك ولك عندي المزيد أن أمنت من خوفي فأعادها إلى متنكرا وقال لي يا سيدي أن الصعلوك ما لا قدر له وليس عندكم من ذوي الرياسات ويظن به الظنون الرديئة عن الأخذ آخذ على ما وهبنيه الزمان من قدرك وحلولك عندي ثم أني ألححت عليه فأومي على موسى وقال والله لئن راجعتني فيها لأقتلن نفسي فخشيت عليه وأخذت الخريطة فأعدتها إلى كمي وقد أثقلني حملها فلما انتهيت إلى باب داره معولا إلى المضي قال لي سيدي أن هذا الموضع أخفى لك وليس في مؤنتك ثقلة فأقم عندي إلى أن يفرج الله عنك فرجعت وسألته أن يكون منفقا من الخريطة فلم يفعل وكان يفعل في كل يوم مثل ما فعله في يوم حلولي عنده فأقمت أياما في ألذ عيش فتبرمت من الإقامة في منزلي واحتشمت من التثقيل فتركته وقد مضى بجدد لنا حالنا فقمت وتزينت بزي النساء بالخف والنقاب فخرجت فلما صرت في الطريق داخلني من الخوف أمر شديد وجئت لأعبر الجسر فإذا أنا بالموضع قد رش وصار زلقا فأبصرني جندي ممن كان يخدمني فعرفني وقال هذه حاجة المأمون فتعلق بي فمن حلاوة الروح دفعته هو وفرسه فرميتهما في ذلك الزلق وتبادر الناس لينقذوه فاجتهدت في المشي حتى قطعت الجسر ودخلت زقاقا فوجدت باب دار وامرأة في دهليزه فقلت يا سيدي النساء احقنى دمي فإني رجل خائف فقالت على الرحب وأطلعني إلى غرفة وفرشت لي وقدمت طعاماً وقالت هدئ روعك فما يعلم بك مخلوق عندي ولو أقمت سنة وهي معي في ذلك وإذ بالباب يدق دقاً عنيفاً فخرجت فتحت الباب فإذا بصاحبي الذي دفعته على الجسر وهو مشدود الرأس ودمه يجري على ثيابه وليس معه فرسه فقالت يا هذا ما بالك فقال لها أن حديثي عجيب ظفرت بالفتى وانفلت مني ولو كنت حملته إلى والمأمون لتعجلت لي مائة ألف درهم قالت وما هو قال إبراهيم ابن المهدي لقيته وتعلقت به فدفعني والفرس فأصابني ما ترين قال فأخرجت إليه خرقا فعملتها في جرحه وعصبته وأسقته شراباً ونام عليلاً وطلعت إليّ فقالت أظنك صاحب القصة فقلت نعم فقالت لا بأس عليك ثم جددت الكرامة فأقمت عندها ثلاثا ثم قالت أني خائفة عليك من هذا الرجل لئلا يطلع على أثرك فينم بك فانج بنفسك فسألتها إمهالي إلى الليل ففعلت فلما دخل الليل لبست زي النساء وخرجت من عندها فأتيت إلى بيت مولاة كانت لي فلما رأتني توجعت لي وبكت وحمدت الله على سلامتي وخرجت كأنها تريد السوق والاهتمام في الضيافة وظننت خيراً فما شعرت إلا بإسحاق بن إبراهيم المصلي بنفسه في خيله ورجله والمولاة معه فسلمتني له فرأيت الموت عيانا وحملت إلى المأمون فجلس مجلسا عاما وأدخلني إليه فلما مثلت بين يديه سلمت عليه بالخلافة فقال لا سلم الله عليك ولا رعاك ولا حباك فقلت على رسلك يا أمير المؤمنين أن أولى الثار محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى ومن تناولته أيدي الاغترار بما أمد له من أسباب الرجا لم يأمن من غائلة الدهر وقد جعلك الله فوق كل ذي عفو كما جعل كل ذنب تحت عفوك فإن تأخذ فبحقك وأن تعف فبفضلك ثم أنشدت:
ذنبي إليك عظيم ... وأنت أعظم منه
فخذ بحقك أولا ... فاصفح بحلمك عنه
إن لم أكن في فعالي ... من الكرام فكنه
فرفع رأسه إلى فبدرته وقلت:
أذنبت ذنبا عظيما ... وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمن ... وإن جزيت فعدل
فرق لي المأمون واستروحت رواح الرحمة في وجهه ثم أقبل على أخيه أبي إسحاق وابنه العباس وجميع من حضر في خاصته وقال ما تقول يا أحمد فقال يا أمير المؤمنين أن قتلته وجدنا مثلك قتل مثله وأن عفوت عنه لم نجد مثلك عفا عن مثله فنكس المأمون رأسه ينكث بأصبعه في الأرض ثم قال متمثلا:
قومي هم قتلوا أميم أخي ... فإذا رميت يصيبني سهمي
فلئن عفوت لاعفون جدالا ... ولئن سطوت لأوهين عظمي
اسم الکتاب : مطالع البدور ومنازل السرور المؤلف : الغزولي الجزء : 1 صفحة : 99