اسم الکتاب : ملتقى أهل اللغة المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 1442
(والعَطْفُ علَى الضَّميرِ المخفوضِ مِنْ غَيْرِ إعادةِ الخافضِ جائزٌ في السَّعَةِ -نَظْمًا ونَثْرًا- عند المحقِّقينَ، وبه قالَ أكابِرُ الكوفيِّين، ويونُس، وأبو الحَسَن الأخفش، وإليه ذَهَبَ شيخُ نُحاة الأندلس الأُستاذ أبو عليٍّ الشلوبين. والدَّليلُ علَى جوازِه القياسُ والسَّماعُ:
أمَّا القياسُ؛ فكما يجوزُ أن يؤكَّدَ ويُبدلَ منه بغيرِ إعادةِ خافضٍ؛ فكذلك يُعطف عليه من غيرِ إعادة خافضٍ.
وأمَّا السَّماعُ؛ فقد وَرَدَ نَظْمًا ونَثْرًا:
أمَّا النَّثْرُ؛ فهذه القراءةُ [قراءة حَمْزة: ((واتَّقوا اللهَ الَّذي تَسَاءَلُونَ بهِ والأرْحَامِ)) بالجَرِّ]، وكفَى بها دليلاً علَى ذلك؛ فإنَّها قراءةٌ مُتواتِرةٌ، قرأَ بها حمزة من الأئمَّة السَّبعةِ، وهو ثبتٌ في ما نَقَلَ، لَمْ يقرأْ حَرْفًا من كتابِ الله تعالى إلاَّ بأثرٍ صحيح عن رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، وقد قرأَ بها مَن تقدَّمَ ذِكْرُهُ من الصَّحابةِ والتَّابعينَ. فَمَن لَحَّنَ حَمْزَةَ أو وَهَّمَهُ؛ فقد كَذَب، ويُخْشَى عليه أن يؤولَ قولُهُ إلى الكُفْرِ.
ومِمَّا يدلُّ علَى صِحَّةِ العَطْفِ علَى الضَّميرِ المخفوضِ من غيرِ إعادةِ الخافضِ -أيضًا-: قولُه تعالَى: ((وكُفْرٌ بِهِ والْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) [البقرة]. وهاتان الآيتان لو أُوِّلتا علَى غيرِ العطفِ علَى الضَّميرِ المخفوضِ؛ لَخَرَجَتَا عَنْ أُسلوبِ الفصاحةِ، وحُسْنِ التَّأليفِ. فيجبُ اطِّراحُ ما عدَا ذلك من التَّأويلاتِ؛ كَمَن جَعَلَ الواو في ((والأرحام)) واو القسم، وجرّ به (الأرحام)، وكَمَنْ جَرَّ ((والمسجدِ الحرامِ)) بالعطفِ علَى ((سبيلِ اللهِ))، إلى غيرِ ذلك من التَّأويلاتِ.
ومِن كلامِ العَرَبِ نثرًا: قولُه: «ما فيها غيرُهُ وفرسِه» بالخَفْضِ في «فرسِه».
وأمَّا النَّظْمُ؛ فقد وَرَدَ من ذلك شيءٌ كثيرٌ بحيثُ لا يُعدُّ ضرورةً، واتَّسَعَتِ العَرَبُ فيه).
وساقَ الشَّواهِدَ، ثُمَّ قالَ:
(وقد وقفتُ علَى ما وَرَدَ من ذلك نظمًا ونثرًا؛ ممَّا يدلُّ علَى كثرةِ العطف على الضَّمير المخفوضِ من غير إعادة الخافضِ. وإن كانَ بعضُ البصريِّينَ قد ذهبوا إلَى مَنْعِ ذلك. فليست القراءةُ مُتوقِّفةً علَى مذهبِ البصريِّين ولا الكوفيِّين؛ بل إذا صَحَّتِ القراءةُ وتواترَتْ؛ فهي أكبرُ حُجَّةٍ علَى صِحَّةِ الحُكْمِ، وكَم من حُكْمٍ ثَبَتَ بقولِ الكوفيِّينَ لَمْ يُثْبِتْهُ البصريُّونَ، وكم من حُكْمٍ ثبتَ بقولِ البصريِّينَ لَمْ يُثْبِتْهُ الكوفيُّونَ، فلسنا مُلْتَزِمين قَوْلَ أحدِ الطَّائفتين (1)؛ بل أيُّهُمْ أثبتَ حُكْمًا بنَقْلٍ صحيحٍ عن العَرَبِ؛ أَخَذْنَا به؛ لأنَّ كِلْتَا الطَّائفتين أثْباتٌ ثقاتٌ في ما نقلوا. وقد رَدَّتِ النُّحاةُ المُعتِزلةُ هذه القراءةَ؛ جَرْيًا علَى عادتِهم في ذلك، ولا يُلْتَفَتُ إليهم؛ لأنَّهم يُصحِّحون القراءةَ بنَحْوِهِم، والأمر بالعكس، وكان حقهم أن يُصحِّحوا نَحْوَهم بالقراءة المُتواترة. وأعجبُ شيءٍ فيهم أنَّهم إذا سمعوا بيتَ شِعْرٍ، لا يعرفون قائلَه، قد خَرَج عن قواعدِ العربيَّةِ؛ التمَسوا له أحسنَ المخارجِ، واعتذروا عنه بأشدِّ العُذْرِ، وإذا رأَوا قراءةً منقولةً من طريقٍ صحيح، قد اعتنَى بها الأئمَّةُ، إلاَّ أنَّها قليلةُ النَّظيرِ؛ رَمَوْها عن قوسٍ واحدٍ (2)، وطَعَنوا فيها، وكان حقهم أن يقبلوها، ويُبيِّنوا مخرجَها، كما يصنعه أهلُ السُّنَّةِ من أهل الصَّنعةِ. والعَجَبُ -أيضًا- من ابنِ عطيَّةَ -علَى طهارةِ لسانِهِ، وعُلُوِّ منصبِه- كيفَ مال إلَى رَدِّ هذه القراءةِ؛ ولكنَّ الجوادَ قد يكبو، والصَّارِمَ قد ينبو. واللهَ أسأل أن يعصمَنا من الزَّلَلِ في القولِ والعملِ).