نشأة مترفة، ولكنه انصرف عن مطامح الدنيا ومطامعها في سبيل طلب العلم، فقد جرت مناظرة بين الإمامين ابن حزم وأبي الوليد الباجي رحمهما الله، فلما انقضت قال الباجي لابن حزم: "تَعذُرُني فإن أكثر مطالعاتي كانت على سُرُج الحُرَّاس"، فأجابه ابن حزم: "وتعذرني أيضًا فإن أكثر مطالعاتي كانت على منائر -أي: مصابيح- الذهب والفضة" [1]، قال ياقوت الحموي: "أراد أن الغنى أضيعُ لطلب العلم من الفقر! " [2].
* وربما نشأ كبير الهمة في بيئة معدِمةٍ قاسية تكون كفيلة بإطفاء همته، والقضاء على نبوغه، فييسر الله له من الأسباب ما يأخذ بيده، أو يقيض له من ينمي مواهبه، ويتكفل بأمره:
نشأ المتنبي شاعر العرب الفحل في أسرة فقيرة غير متعلمة، لكن الله قيَّض له فرصة التعليم المجاني في كُتَّاب خاص بأبناء أشراف الكوفة،
(1) "معجم الأدباء" (12/ 239). [2] وعلق الشيخ محمد أبو زهرة -عفا الله عنه- على اعتذار الإمامين قائلاً: "يرى ابن حزم أن كثرة المال وطيب العيش تسُدُّ مسالكَ العلم إلى النفوس، فلا تتجه إلى العلم، فإن الجِدَة قد تُسَهِّل اللهو، وتفتحُ بابه، وإذا انفتح بابُ اللهو سُدَّ بابُ النور والمعرفة، فلذائذ الحياة وكثرتها تطمس نور القلب، وَتُعمي البصيرة، وتَذهبُ بِحِدَّة الإدراك.
أما الفقير -وإن شغله طلب القوت- قد سُدَّت عليه أبواب اللهو، فأشرقت النفس، وانبثق نور الهداية، هذا نظر ابن حزم. أما نظر الباجي فإنه متجه إلى الأسباب المادية من حيث تُسهل الحياة المادية، من غير نظر إلى الأسباب المادية النفسية التي تضمن أن الغنى يكون في كثير من الأحوال معه الانصرافُ عن العلم إلى اللهو، وقد توفرت ذرائعه" اهـ. من كتابه "ابن حزم" ص (56).