في آخر حياته، ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله؛ وذلك لأن الفتنة بالصلاة عند القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم من الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها، وقد نهى عن الصلاة في هذه الأوقات سدا لذريعة التشبه بالمشركين التي لا تكاد تخطر ببال المصلي، فكيف بهذه الذريعة القريبة التي تدعو فاعلها إلى الشرك الذي أصله التعظيم بما لم يشرع والغلو فيها.
[تعظيم القبور أعظم أبواب الشرك]
وقد أخرج الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" [1].
ومعلوم أن إيقاد السرج إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبا يوفض إليها المشركون، وكذلك اتخاذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين.
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث أنه إذا لعن من فعل ما هو وسيلة إلى التعظيم والغلو، وإن كان المصلي عندها ومتخذها مساجد إنما وجه وجهه وقلبه إلى الله وحده، فكيف إذا وجه وجهه إلى أرباب القبور، وأرواح الأموات، وأقبل عليها بكليته، وطلب النفع منها من دون الله -تعالى-؟ فإنه قد صرف ما هو من خصائص الربوبية لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فمن جعل لله شريكا يلتجئ إليه، ويعلق به قلبه، ويوجه إليه وجهه، ويرغب إليه دون الله، فقد جعله لله ندا، كما في الصحيحين عن ابن مسعودرضي الله عنه "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك" [2] الحديث.
وقد بين تعالى في كتابه دينه الحنيف فيما ذكر عن خليله إبراهيم -عليه السلام- أنه: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [3] وقال -تعالى-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ [1] الترمذي: الصلاة 320 , والنسائي: الجنائز 2043 , وأبو داود: الجنائز 3236 , وابن ماجه: ما جاء في الجنائز 1575 , وأحمد 1/229 ,1/287 ,1/324 ,1/337. [2] البخاري: الأدب 6001 , ومسلم: الإيمان 86 , والترمذي: تفسير القرآن 3182 ,3183 , والنسائي: تحريم الدم 4013 ,4014 ,4015 , وأبو داود: الطلاق 2310 , وأحمد 1/380 ,1/431 ,1/434 ,1/462 ,1/464. [3] سورة الأنعام آية:78، 79.