قال جماعة: هو إرادة بالقلب، مع السؤال باللسان. وقال البعض: هو السؤال باللسان فقط. فإن قلت: من أعلمك أنهم لم يتمنوا؟ أجيب: بأنهم لو تمنوا لنقل ذلك عنهم كما نقل سائر الحوادث، ولكثر ناقلوه من أهل الكتاب وغيرهم من أولى المطاعن فى الإسلام، وهم أكثر من الذر، وليس أحد منهم نقل ذلك.
فإن قيل: التمنى من أعمال القلوب، وهو سر لا يطلع عليه أحد، فمن أين علمت أنهم لم يتمنوا!؟ أجيب: بأن التمنى ليس من أعمال القلوب، إنما هو قول الإنسان باللسان: ليت لى كذا، فإذا قاله، قالوا: تمنى، وليت كلمة تمن، ومحال أن يقع التحدى بما فى الضمائر والقلوب، ولو كان التمنى بالقلوب وتمنوا، لقالوا: تمنينا الموت فى قلوبنا، ولم ينقل أنهم قالوا ذلك.
فإن قيل: لم يقولوه؛ لأنهم علموا أنهم لا يصدقون. أجيب: بأنه كم حكى عنهم من أشياء قالوها للمسلمين من الافتراء على الله، وتحريف كتابه، وغير ذلك مما علموا أنهم غير مصدقين فيه، ولا محمل له إلا الكذب الصرف، ولم يبالوا، فكيف يمنعون من أن يقولوا: إن التمنى من أفعال القلوب، وقد فعلناه مع احتمال أن يكونوا صادقين فى قولهم، وإخبارهم عن ضمائرهم، وكان الرجل يخبر عن نفسه بالإيمان فيصدق مع احتمال أن يكون كاذبا؛ لأنه أمر خفى ولا سبيل إلى الاطلاع عليه.
فإن قيل: عدم نقل تمنيهم الموت إلى الآن لا يدل على عدم تمنيهم أبدا. أجيب: بأنه لا محيص عن هذا الإشكال إلا أن يكون الخطاب مع المعاصرين، وقد انقرضوا ولم يتمنوا، وإلا لنقل ذلك واشتهر، فلما لم ينقل، علم أنهم لم يتمنوه.
ولعل هذا القول يخالف ما تقدم آنفا عن الشفا نقلا عن أبى محمد الأصيلى، من أن عدم التمنى ثابت للاحقين منهم أيضا، والحاصل أن التمنى إما فعل اللسان، وإما فعل القلب، وأيا ما كان يثبت وهو أنهم لم يتمنوه.
من أنباء الغيب:
كذلك من الإخبار بالغيب الذى يلزمهم ولا يستطيعون رده، ما أشارت إليه الآية الكريمة فى قوله سبحانه: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [آل عمران: 44].
أنباء الغيب هى ما تقدم قبل هذه الآية من ذكر قصة زكريا، ويحيى، ومريم، وأمها