أن من كان له حقيقة يشارك بها غيره، لا بدّ أن يكون له ما يتميز به عن غيره، فيتركب مما به الاشتراك، وما به الامتياز، والتركيب ينافى الإلهية، فعيسى، عليه السلام، باعتبار ذاته لا يملك شيئا نفعا ولا ضرا، وهو بهذا الاعتبار يشترك مع آحاد كل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا، فإذا ما انضم إليه خصيصة تميزه عن بقية آحاد هذه الحقيقة، بأن قدر بأقدار الله تعالى على جلب نفع، أو دفع ضر، كان مركبا، والتركيب ينافى الإلهية كما قدمنا آنفا.
غلو اليهود والنصارى:
ثم يقول الله تعالى بعد ذلك خطابا لأهل الكتاب عامة من يهود ونصارى، كما هو رأى الأكثر: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ [المائدة: 77]، الغلو نقيض التقصير.
وقوله تعالى: غَيْرَ الْحَقِّ يفيد أن الغلو فى الدين نوعان: غلو حق، وهو أن يجتهد فى تحصيل حججه، كما يفعل المتكلمون، وغلو باطل، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة، فيرفعوا عيسى، عليه السلام، إلى أن يدّعوا له الإلهية.
وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ فى غلوهم، وهم أسلافهم الذين قد ضلوا بتماديهم فى الباطل من التثليث وغيره، حتى ظن حقا ضَلُّوا أى بعد مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ، أى طريق الحق، وهو الإسلام، والسواء فى الأصل هو الوسط، والأهواء هاهنا المذاهب التى تدعوا إليها الشهوة دون الحجة.
قال أبو عبيد: لم يذكر الهوى إلا فى موضع الشر، لا يقال: فلان يهوى الخير، إنما يقال: يريد الخير ويحبه، وقيل: سمى الهوى هوى؛ لأنه يهوى بصاحبه إلى النار، وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذى جعل هواى على هواك، فقال: كل هوى ضلالة.
وبعد فما أصدق هذه الحقائق القرآنية، وما أعظم هذه الآيات التنزيلية، وما أشد إلزامها لليهود والنصارى فى انحرافهم عن التوحيد وبعدهم عما جاء به القرآن الكريم من العقيدة الحقة، والأعمال التشريعية الصالحة، وما أصدق قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:
33].