اسم الکتاب : مذاهب فكرية معاصرة المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 381
عبدا ذليلا خاضعا لذلك الجبار الذي لا يلتفت مرة واحدة لهذا الإنسان، ولا يعيره اهتمامه ولا يرحم ضعفه ولا يقيله من عثرته؟!
ثم ... "من" الذي يصنع التغيير في حياة الإنسان؟! و"ما" الذي يصنعه؟! وكيف صار للإنسان تاريخ؟!
يقولون: هي المادة وقوانين المادة ...
وما بنا من حاجة أن نعود إلى السؤال الذي سألناه من قبل: ما بال المادة وقوانينها لا تصنع هذا التغيير في حياة الحيوان! إنما نقول إن خصائص "الإنسان" التي تفرد بها هي التي تصنع تاريخه، وتصنع التغيرات في هذا التاريخ, فلولا رغبة الإنسان في المعرفة -تلك الرغبة المركوزة في أعماق كيانه- ولولا رغبته في استخدام ثمار المعرفة في تحسين أحواله المعيشية في شتى جوانبها، المادي منها وغير المادي، ولولا قدرته على تخيل صورة معينة لأشياء لم توجد بعد في عالم الواقع، وبذل الجهد في محاولة إيجادها في الواقع..
لولا هذه "الخصائص" التي تفرد بها الإنسان، هل كان يمكن أن يكون للإنسان تاريخ؟!
إن الحيوان ليس له تاريخ.. ولن يكن له ...
فالحمار الذي عاش قبل عشرة آلاف سنة هو الحمار الذي يعيش اليوم.. لم يغير شيئا في واقع حياته، ولا يملك أن يغير.. ليس له ماض يرجع إلى تجاربه، ولا مستقبل يسعى إلى تحقيقه. ليس له "ذكريات" ولا "آمال" ولا "تطلعات" تتجاوز شخصه إلى أشخاص غيره من الحمير، أو تتجاوز لحظته الحاضرة إلى الغد القريب أو البعيد.
ولكن الإنسان -بخصائصه المتفردة- لم يكن كذلك منذ مولده، إنما كانت له دائما "تجربة" واعية يختزنها في كيانه فردا وجماعة ويجعلها نقطة ارتكاز ينطلق منها إلى التجربة التالية، وكانت له دائما ذكريات فردية واجتماعية، وآمال وتطلعات، فردية واجتماعية كذلك، ترسم له -إلى جانب الشهوات والضرورات المركوزة في كيانه- خط رحلته في هذه الأرض.
ومجمل تاريخه هو مجمل ذلك كله.
وحين يخترع آلة جديدة فهذا الاختراع نابع من صميم نفسه ... من تجاربه الواعية، ومن ذكرياته وآماله وتطلعاته.. إنه لا ينشئها عبثا، ولا تنشأ هي في
اسم الکتاب : مذاهب فكرية معاصرة المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 381