ورأى أن هذا المعنى واقعيٌّ في تاريخ البشر، فليس يوجد الفرد من الناس في الحاضر إلا بفضل الماضي، ولا يستمدُّ أسباب الحياة المادية والعقلية والخلقية إلا من الإنسانية، التي ورَّثَتْ مواريثَها للأجيال، حتَّى يصحُّ أن يُقَال: إن آثار السابقين من الناس في حياة الموجودين منهم، أكثَرُ من آثار الموجودين منهم، فكأنَّ الأموات بآثارِهم أحياءٌ في المجتمع الإنساني أكثَرُ من الأحياء أنفسهم.
لما تجمعت لدى "أوجست كونت" كل هذه الرؤى ظهر له أن معنى "الإنسانية" المجرد عن المشخصات، هو "الموجود الأعظم" الذي تشارك فيه الموجودات الماضية والحاضرة والمستقبلة، والذي تُسَاهِمُ عن طريقه الموجوداتُ في تقدُّم الناسِ وسعادةِ المجتمع البشري.
فهذا "الموجود الأعظم" وهو معنى "الإنسانية" المجرّد عن المشخّصات، هو المعنى الذي ينبغي التوجُّه له بالعبادة.
وسمَّى "كونت" مفاهيمه هذه "دين الإنسانية".
* * *
(5) أما العبادة في هذا الدين "دين الإنسانية" الذي اخترعه "أوجست كونت" فهي عبادة تُوَجَّهُ لفكرة "الإنسانية" أو لمعنى "الإنسانية".
ورأى "كونت" أن يضع معالم لهذه العبادة، فقسَّمها إلى:
(أ) عبادة مشتركة.
(ب) عبادة فردية.
* فالعبادة المشتركة تكون في أعيادٍ تذكاريّةٍ تكريماً للمحسنين من الناس إلى "الإنسانية" وهذه الأعياد تُمْلأُ بما يَسُرُّ المشتركين فيها، وبما يُشْعر بالعرفان بالجميل، لهؤلاء الذين أحسنوا إلى "الإنسانية".
وفي خطوة عملية وضع "كونتِ" تقويماً من واقع التاريخ البشري الذي