اسم الکتاب : منهج التربية الإسلامية المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 99
لقد نشأ الإسلام في البادية العربية، في بلاد لا تعرف من الحضارة المادية إلا القليل الذي يهبط عليها من أصقاع الأرض؛ مع القوافل الغادية الرائحة. ولا تهتم هي إلا بالشعر والحروب القبلية.. لا تفكر في علم ولا اختراع ولا بحث تجريبي ولا تفكير نظري.. ولكن الإسلام بعثها بعثًا عنيفًا متدفقًا كأنما هي سيل يتحدر من ارتفاع شاهق فيملأ السهول والوديان.. بعثها فإذا هي تنشط في كل ميدان من ميادين النشاط البشري: في العلم والعمل. في الحرب والسياسة. في الفقه والتشريع.. وما أسرع ما وقع المسلمون على علوم الإغريق والمصريين والهنود، من طب وفلك وطبيعة وكيمياء ورياضيات، فنهلوا منها في نهم، وانطلقوا يضيفون في كل فرع منها إضافات حية أصيلة، تقدمت بالمعرفة الإنسانية أشواطًا هائلة وعاها التاريخ، ووعتها أوربا بصفة خاصة، إذ قامت كل نهضتها الحديثة عليها، وإن كانت الخسة قد أدركتها، فتنكرت للمسلمين الذين تتلمذت على أيديهم في الأندلس وغير الأندلس، وراحت تحاربهم وتجليهم من الأرض، ثم تستعمرهم أبشع استعمار.
والمذهب التجريبي الحديث، الذي قام عليه كل "العلم" الأوربي، هو -باعتراف الأوربيين أنفسهم- تراث إسلامي أصيل. يقول هـ. ر. جب في كتابه "الاتجاهات الحديثة في الإسلام":
"أعتقد أنه من المتفق عليه أن الملاحظة التفصيلية الدقيقة التي قام بها الباحثون المسلمون قد ساعدت على تقدم المعرفة العلمية مساعدة مادية ملموسة، وأنه عن طريق هذه الملاحظات وصل المنهج التجريبي إلى أوربا في العصور الوسطى". وفي ذلك الاعتراف ما يكفي لإثبات جهد المسلمين الملموس في ترقية العلوم -نظريها وتجريبيها- وقت أن كانوا مسلمين.
ولكن هذا التقدم المادي -الذي قطعوا فيه أشواطًا عظيمة- لم يفتنهم قط ولم يخرج بهم عن إنسانيتهم! وتلك مزية الإسلام!
إن المسلمين لم يفتنهم التقدم المادي فينقطعوا عن الله ومنهجه وعبادته والسير على هداه.
لم يفتهم فينقطعوا عن عالم الروح.
ولم يفتنهم فيستغلوا علمهم في سبيل الشر.
لم يفتنهم فيحولهم إلى المادية الكريهة التي تسيطر اليوم على الغرب.
اسم الکتاب : منهج التربية الإسلامية المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 99