اسم الکتاب : منهج التربية الإسلامية المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 210
"تجريدهم" من ذواتهم. تجريدهم من الاعتزاز بكل ما يعتزون به من أهواء ذاتية وقيم أرضية. ليعتزوا "بالحق" وحده. الحق مجردًا من أشخاصهم. الحق متلبسًا بذواتهم ولكنه متميز فيها تميزًا واضحًا. بحيث تتبع ذواتهم الحق، ولا تتبع أهواءهم أو مشاعرهم الشخصية. وذلك بأن يتجردوا لله. يتجردوا له تجردًا خالصًا. ينتزعون به أنفسهم من كل ما يجيش فيها من مشاعر، وما ترتبط به من وشائح، وما تعتز به من قيم وأشياء.
ولذلك كان الامتحان الأكبر لهم في العهد المكي هو تحمل الأذى في سبيل الله، في سبيل الدعوة الناشئة المضطهدة المطاردة.. دون رد على العدوان ودون أخذ بالثأر من المعتدين.
لقد كان في وسع المسلمين الأوائل أن يثيروها حربًا قَبَلِية.. أو حربًا شخصية.. كل إنسان يأخذ بثأره وينتهي الأمر.. ولو بمقتل المؤمنين جميعًا وفنائهم.. فما كانوا يبالون في جاهليتهم أن يبقى منهم أحد بعد أخذ الثأر! ولكن ذلك لم يكن ليصبح انتصارًا للدعوة، ولا انتصارًا للدين الجديد! إنه يكون استمرارًا للجاهلية! استمرارًا للاعتزاز بالقيم الشخصية والقيم الأرضية المبتوتة الصلة بالله والحق والعدل و"الإنسانية". استمرارًا في الهبوط لا أخذًا في وسائل الارتفاع.
ولكن التربية التي منعتهم من أخذ الثأر- التربية التي وجهتهم إلى الصبر واحتمال الأذى والعدوان دون رد. التربية التي وجهتهم إلى ما يشبه -في ظاهره- أن يكون رضى بالهوان والظلم. هذه التربية هي التي أنشأت النفوس الجديدة المعتزة بالله، المعتزة بالقيم التي ينشئها الله؛ والتي أنشأت أعز نفوس عرفتها البشرية وأكرم نفوس.. نفوس مستعلية بالإيمان: مستعلية على ذواتها، وعلى شهواتها، وعلى أهوائها، وعلى كل قيمة مادية أو أرضية لا تسير في طريق الله.
في تلك الفترة كانت التربية تقول في سورة المزمل: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [1] وكانت تقول في نفس السورة: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [2]. [1] سورة المزمل 10. [2] سورة المزمل 2-5.
اسم الکتاب : منهج التربية الإسلامية المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 210