اسم الکتاب : منهج التربية الإسلامية المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 209
سيان. لم يكن الاعتزار "لمعنى" أو "لقيمة" من القيم العليا. وإنما كان للذات. لا يحتمل أحدهم أن يصيبه أذى -ولو بالحق- فينتضي سيفه ويخرج للقتال. لا يبالي أصيب أم أصاب. ولا يبالي أين وجه الحق: معه أم عليه. لذلك كانت الثارات لا تنقطع في أنحاء الجزيرة. والمظالم كذلك لا تنقطع. والقبائل لا تعرف السلام ولا تقوم بينها العلاقات بالحق.. وفي الوقت ذاته لا يرتفع العرب إلى معنى من المعاني الكبيرة, التي تقوم عليها الإنسانية الرفيعة الجديرة بمعنى "الإنسان". وحتى "فضائلهم" التي يمارسونها من كرم وقرى للضيف، ووفاء بالعهد -أحيانًا- وإباء للضيم، فللمفاخرة التي "يجري بذكرها الركبان" ودفعًا للعار الذي يعيرهم به الخصوم، وليس إيمانًا حقيقيًّا بهذه القيم يمارسونه في جميع الأحوال! وأبلغ دليل على ذلك أنهم في الوقت الذي كانوا ينحرون الذبائح للأضياف -ليتحدث الناس بكرمهم- كانوا يأبون إباء شديدًا أن يطعموا الضعيف والمحروم والمسكين الذي لا يحس به أحد، ولا يصل حديثه إلى الأسماع! مما جعل القرآن يلح في هذه الدعوة إلحاحًا شديدًا. ويثير وجدان القوم بكل ألوان الإثارة ليحسوا بالوازع الإنساني الحقيقي الذي يدفع إلى الخير ولو لم تعلم به الناس!
وفيما عدا حلف الفضول -وهو صحوة نادرة من صحوات الضمير البشري- لم يكن للعرب "عهد" بالمعنى الإنساني المفهوم. إنما كانت عهودهم أن يحالف بعضهم بعضًا في العدوان وفي رد العدوان سواء. لا فرق بين حق وباطل، ولا معيار يمكن الرجوع إليه إلا الأهواء! وأعجب مثل لذلك ما كانوا يصنعونه في الأشهر الحرم من تقديم وتأخير ونسيء؛ ليوافق أمزجتهم في العدوان أو رد العدوان! فإذا أدركتهم الأشهر الحرم وهم في المعركة ولم يشاءوا الانصياع لحرمتها, أجلوها لحين الانتهاء من المعركة التي بين أيديهم، أو أجلوها للعام المقبل وجعلوا السنة التي هم فيها بغير أشهر حرام! وقد يجيء العام المقبل فتعن لهم شهوة أخرى فينسئون الشهر الحرام مرة ثانية: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} [1].
لذلك كانت تربية القرِآن لهؤلاء العرب بالأحداث في العهد المكي هي [1] سورة التوبة 37.
اسم الکتاب : منهج التربية الإسلامية المؤلف : قطب، محمد الجزء : 1 صفحة : 209