اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 392
ورقة القلب عند أهل القلوب هو خشوعه وخوفه وذلّه وانكساره وإخباته، فمن أعطاه هذا في قلبه لم يضرّه ما منعه من بكاء عينه فإن رحج له بفيض العين فهو فضل، ومن أعطاه بكاء العين وحرمه خشوع القلب وذلّه وخضوعه وإخباته فهو مكر به؛ وهذا هو حقيقة المنع وعدم النفع وجملة بكاء العين إنما هو في علم العقل، فأما علم التوحيد بمشاهدة اليقين فلا بكاء فيه لأنه يظهر لشاهد الوحدانية فيحمله على علم القدرة فتفيض الدموع بانتشاق القوّة، وقد وصف الله تعالى الباكين: إن البكاء يزيدهم خشوعاً في قوله تعالى: (يَبْكُونَ وَيَزيدُهمْ خُشُوعًا) الإسراء: 109 فإذا زادنا البكاء كبرًا وفخرًا علمنا بذلك عدم الخشوع في القلب فكان تصنّعاً وعجباً لخفايا آفات النفوس، فأعلى المخاوف خوف السوابق والخواتم كما كان بعض العارفين يقول: ما بكائي وغمّي من ذنوبي وشهواتي لأنها أخلاقي وصفاتي لا يليق بي غيرها إنما حزني وحسرتي كيف كان قسمي منه ونصيبي حين قسم الأقسام وفرق العطاء بين العباد فكيف كان قسمي منه البعد، فهذا الذي ذكرناه هو جمل خوف العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وهم أبدال النبيين وأئمة المتقين، أولو القوّة والتمكين، وسئل أبو محمد رحمه الله: هل يعطي الله أحداً من الخوف مثقالاً فقال: من المؤمنين من يعطي من الخوف وزن الجبل قيل: فكيف يكون حالهم يأكلون وينامون وينكحون؟ قال: نعم يفعلون ذلك والمشاهدة لا تفارقهم والمأوى يظلّهم قيل: فأين الخوف قال: يحمله حجاب القدرة بلطيف الحكمة ويستر القلب تحت الحجاب في التصريف بصفات البشرية فيكون مثل هذا العبد مثل المرسلين، وهذا كما قال لأن مشاهدة التوحيد بالتصريف والحكمة تقيمه بالقيام بالأحكام، وذلك أن نور الإيمان في القلب عظيم لو ظهر للقلب لأحرق الجسم وما اتصل به من الملك إلا أنه مستور بالفضل مغطّى بالعلم لإيقاع الأحكام، وإيجاب التصريف فيها والقيام يجري مجرى الغايات من معاني القدر والصفات لأن الأنوار محجوبة بالأسماء والأسماء محجوبة بالأفعال والأفعال محجوبة بالحركات فتظهر الحركة بالقدرة وهي غيب من ورائها، كذلك يظهر التصريف بالحكمة من نور الإيمان وأنوار الإيمان مستورة من ورائه.
وقال بعض العارفين: لو كشف وجه المؤمن للخلق عند الله تعالى لعبدوه من دون الله تعالى ولو ظهر نور قلبه للدنيا لم يثبت له شيء على وجه الأرض، فسبحان من ستر القدرة ومعانيها بالحكمة وأسبابها حلمًا منه ورحمة وتطريقًا للخلق إليه للمنفعة، وفي قراءة أبيّ بن كعب مثل نور المؤمن، فولا أن نوره من نوره ما استجاز إبدال حرف بغير معناه، وقد كان سهل رحمه الله تعالى يقول: الخوف مباينة للنهي والخشية الورع والإشفاق الزهد، وكان يقول: دخول الخوف على الجاهل يدعوه إلى العلم، ودخوله على العالم يدعوه إلى الزهد، ودخوله على العامل يدعوه إلى الإخلاص،
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 392