اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 349
كفرها، فإن كفرها أدركه العذاب الشديد للوعيد إلا أن تداركه نعمة من ربه وأصول نعم المرافق للأحراث أربعة؛ أوّلها: النطفة التي أخرجت من خزانة الأرحام جميع البهائم والأنام، ثم الحرث الذي أخرج من خزانة الأرض جميع الثمر، ثم الماء الذي لنا منه شراب ومنه شجر، ثم النار التي فيها ضياء ومصالح الأطعمة وبها لأهل البصائر تذكرة، وهذه النّعم هي التي ذكرها المنعم في آخر سورة الواقعة وأضافها إلى نفسه عزّ وجلّ ولم يجعل فيه شريكاً معه وفتح للعباد العمال أبوابها.
ومن أفضل النّعم وأجلّها نعمة الإيمان به سبحانه وتعالى، ثم نعمة الرسول، ثم نعمة القرآن، ثم أن جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وقبل ذلك أول نعمة عقلناها أن جعلنا موجودين دون سائر المعدومات، ثم جعلنا حيواناً دون سائر الموات، ثم جعلنا بشر دون سائرالحيوان ثم جعلنا ذكوراً دون الإناث، ثم صوّرنا في أحسن تقويم ثم عوافي القلوب من الزيغ عن السنة ومن الميل إلى دواعي النفس الأمّارة، ثم صحة الأجسام ثم كشف الستر، ثم حسن الكفاية لحاجة، ثم صنوف ما أظهر من الأزواج للأقوات، ثم تسخير الصنعة لنا ممّا بين السماء والأرض؛ فهذه أمهات النعم فكلّما كثرت هذه المعاني وحسنت كثر الشكر عليهما فعظيم النّعم بها، (وإنْ تَعدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لاتُحْصُوهَا) إبراهيم: 34 وكان أبو محمد سهل رحمه الله يقول: خصّ بمعرفة النّعم وبمعرفة عظيم حلم الله تعالى وستره الصديقون.
وقد قال الله تعالى أصدق القائلين وأحسن الواصفين: (وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَة الله لا تُحْصُوها إنَّ الله لَغَفُورٌ رَحيمٌ) إبراهيم: 34، فتمّت النعمة بوصفيه اللذين هو لهما أهل من المغفرة والرحمة ثم قال أيضاً في مثله: (إنَّ الإنّسانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ) إبراهيم: 34 فكان أعظم للنعمة وأوسع في الكرم والمنّة على وصفي الإنسان اللذين هو أهل لهما من الظلم والكفر، فهو سبحانه وتعالى أهل التقوى وأهل المغفرة والعبد أهل لما وصفه به مولاه عزّ وجلّ إلى أن يجود عليه بقديم ما به تولاه فبنعمته أطاعه العاملون، ومن نعمته جازاهم وبنعمته عصاه الجاهلون، ومن نعمته ستر وحلم عنهم، ومن النعم إظهار الجميل وستر القبيح فلا ندري أي النعمتين أعظم جميل ما أظهر أو قبيح ما ستر، وقد يمدح الله تعالى بالوصفين معاً في الدعاء المأثور: يا من أظهر الجميل وستر القبيح، ومن النعمة الصحة والفراغ هما أوّل نعيم الدنيا وأصول أعمال الآخرة وبهما تكون المغابنات كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ، وقال الفضيل بن عياض: عليكم بمداومة الشكر على النّعم فقلّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم، وقال بعض السلف: النّعم وحشية فقيدوها بالشكر، وقد روي في خبر: ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلاّ كثرت حوائج الناس إليه، فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال.
اسم الکتاب : قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد المؤلف : أبو طالب المكي الجزء : 1 صفحة : 349