اسم الکتاب : شرح العقيدة الأصفهانية المؤلف : ابن تيمية الجزء : 1 صفحة : 164
الإنسان من أول الفطرة خلق خاليا ساذجا لا خبر معه من عوالم الله تعالى، والعوالم كثيرة لا يحصيها إلا الله كما قال سبحانه: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [1] ثم ذكر ما يدركه بالحواس ثم بالتمييز ثم يترقى في طور آخر فيخلق له العقل، فيدرك الواجبات والجائزات والمستحيلات وأمورا لا توجد في الأطوار التي قبله وراء العقل طور آخر يتفتح فيه عين أخرى يبصر بها الغيب وما سيكون في المستقبل وأمور أخرى العقل معزول عنها لعزل قوة الحس عن مدركات التمييز وكما أن المميز لو عرض عليه مدركات العقل لأباه واستبعده، فكذلك بعض العقلاء أبوا مدركات النبوة فاستبعدوها، وذلك عين الجهل إذ لا مستند له إلا أنه طور لم يبلغه ولم يوجد في حقه، فظن أنه غير موجود في نفسه، والأكمه لو لم يعلم بالتواتر والتسامع الألوان والأشكال وحكى له ابتداء لم يفهمها ولم يقر بها، وقد قرب الله منها ذلك إلى خلقه بأن أعطاهم أنموذجا من خاصة النبوة وهو النائم إذ النائم لم يدرك ما سيكون في الغيب إما صريحا وإما في كونه مثال يكشف عنه التعبير.
وهذا لو لم يجز به الإنسان من نفسه، وقيل له إن من الناس من يسقط مغشيّا عليه كالميت ويزول إحساسه وسمعه وبصره فيدرك الغيب لأنكره ولأقام البرهان على استحالته.
وقال: القوى الحساسة أسباب الإدراك فمن لا يدرك الشيء مع وجودها وحضورها فبأن لا يدرك مع ركودها أولى.
وهذا نوع قياس يكذبه الوجود والمشاهدة فكما أن العقل طور من أطوار الآدمي يحصل فيه عين أخرى يبصر بها أنواعا من المعقولات الحواس معزولة عنها فالنبوة أيضا عبارة عن طور يحصل فيه عين أخرى لها نور يظهر في نورها الغيب وأمور لا يدركها العقل، والشك في النبوة إما أن يقع في إمكانها أو في وجودها أو وقوعها أو في حصولها لشخص معين.
ودليل إمكانها وجودها، ودليل وجودها وجود معارف في العالم لا يتصور أن تنال بالعقل كعلم الطب والنجوم، فإن من بحث عنها علم بالضرورة أنها لا تدرك إلا بإلهام إلهي [2] وتوفيق من جهة الله تعالى ولا سبيل إليه بالتجربة فمن [1] سورة المدثر، الآية: 31. [2] الإلهام هو ما يلقى في الروع بطريق الفيض، وقيل: الإلهام ما وقع في القلب من علم وهو يدعو إلى العمل من غير استدلال بآية ولا نظر في حجة، وهو ليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين.
انظر التعريفات للجرجاني (ص 57).
اسم الکتاب : شرح العقيدة الأصفهانية المؤلف : ابن تيمية الجزء : 1 صفحة : 164