أولاً: لقد بدأتُ هذا البحث بقولي [اختلف الفقهاء قديماً، وقلَّ اختلافُهم حديثاً بخصوص اختلاف المطالع] وهذا القول فيه إشارة واضحة إلى أن جمهرة العلماء في عصرنا الراهن قد تركوا القول باختلاف المطالع، وأنهم قد التزموا، أو كادوا بما أصدرته مجامع البحوث في القاهرة وغيرها من بلدان المسلمين فلم نعدْ نسمع عالماً يقول باختلاف المطالع إلا نادراً. ومع هذا الاتحاد في الرأي عند العلماء، فإننا لا زلنا نرى حال دول المسلمين، وكأن العلماء لم يتفقوا على رأي، ولم تُصْدِر مجامعُ البحوث ومجالسُ الفتاوى قراراتهم بوحدة المطالع. فصار العلماء – وهم في الأصل أصحاب الشأن في هذه المسألة – معزولين عن القرارات الصادرة عن الحكام، ولا يخفى على أي مسلم واعٍ أن السبب في ذلك هو فصل الدين عن الدولة لدى جميع دول المسلمين، فصارت الدول تتخذ قراراتها بعيداً عن الاحتكام لأحكام الشرع وفتاوى العلماء، وإذا رأينا هذه الدول تُصدر أحكاماً تبدو شرعية أو متوافقة مع الشرع، أو رأيناها تأخذ بفتاوى صادرةٍ عن العلماء، فإن المدقق فيها يجد أن هذه الدول هي التي بادرت إلى تشريع هذه الأحكام لمصالحها ولغاياتها الخاصة، ثم هي أمرت العلماء المتعاملين معها باستحضار النصوص التي تجيز هذه التشريعات، وليس العكس. فالحكام يأمرون ويشرِّعون، والعلماء يوافقون ويفتون بما يرضي هؤلاء الحكام، وإذا تعارض الموقفان فالنافذ هو رأي الحكام.