…بقيت الآثار ذوات الأرقام (4، 5، 6) فأقول ما يلي: إِن هذه أقوالُ صحابة، وأقوال الصحابة وأفعالهم ليست أدلةً وليست حُجةً، وإنما هي أحكام شرعية يصح تبنِّيها وتقليدُها، لا سيما إذا لم يكن قد رُوي ما يعارضها عن صحابة آخرين، وهنا لا أعلم أثراً واحداً رُوي يخالفها. الأثر الأول يقول إنَّ ابن عباس قد قرَّر الصيام في النهار دون أن يكون قد نواه من قبلُ ولكنه لم يكن قد تناول طعاماً في يومه ذاك. والأثر الثاني عن ابن مسعود يقول بقول ابن عباس، وإن اختلفت العبارتان، فهو يبين جواز عقد نية الصيام في النهار إن كان لم يأكل أو لم يشرب بعد. والأثر الثالث يذكر أن حُذَيفة صام بعد زوال الشمس من نهاره أي أنه عقد نية الصيام بعد الظهيرة وأعلن ذلك للناس. فهؤلاء ثلاثة من كبار الصحابة يجيزون عقد نية الصيام في النهار، وقيَّده اثنان منهم بأن لا يكون الشخص آنذاك قد أكل أو شرب، وذكر حذيفة جواز عقد النية بعد الظهيرة، وهذه الآثار ردٌّ على من أوجب عقد النية قبل الظهيرة ولم يُجزها بعد الظهيرة. أما فعل حذيفة وقوله فواضحان، وأما أثرا ابن عباس وابن مسعود فقد وردا مطلقَيْن من أي تقييد زمني، ولم يكن فيهما من تقييدٍ سوى عدم الأكل قبل النية والمطلق يُعمل به على إطلاقه ما لم يُقيَّد، وهنا لا يوجد تقييد. ثم إن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قد خلا بروايتيه أيضاً من أي تقييدٍ زمني، فقوله في الرواية الأولى (دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم) وقوله في الرواية الثانية (جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً) دون أن يَرِدَ في هاتين الروايتين إن كان ذلك قد وقع في أول النهار أو في وسطه أو في آخره، والمطلق يبقى على إطلاقه هنا.