…أما عن الحديث الخامس الذي رواه البخاري، والذي يذكر كراهة الحجامة، ويذكر أن علة هذا الحكم هي ما يصيب المحتجِم من ضعف نتيجة خروج الدم منه، فإن لقائلٍ أن يقول: إن حكم الكراهة – وقد يُطلق الفقهاء هذه اللفظة ويعنون بها التحريم – باقٍ وأنه لم يُنسَخ لأن العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، وحيث أن العلة في هذا الحديث ثابتة وباقية، لأن الضعف الذي يطرأ على المحجوم لا يتخلف، فإن الواجب إِعمالُ هذه العلة والقولُ من ثمَّ بكراهة الحجامة أو بحرمتها؟ فنرد على هذا القول من عدة وجوه:
…أولاً: إن هذا القول هو قولٌ لأنس بن مالك وليس قولاً مرفوعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعتبر دليلاً شرعياً يجب الالتزام به.
…ثانياً: إن تعليل كراهة الحجامة بأنه الضعف، ينطبق على المحجوم، ولا ينطبق على الحاجم. فالمحجوم قد يضعف من خروج الدم منه وليس كذلك الحاجم. فكيف نكره الحجامة للاثنين معاً؟ إن هذا الحال يجعلنا نشك في صحة نسبة هذا القول لأنس رضي الله عنه، كما يجعلنا نشك أكثر في نسبة هذا القول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
…ثالثاً: إن السبب في احتجام الشخص، هو ما يشعر به من وفرة دمه وفَوَرانه، وقوةِ ضغطه، وما يلحقه بسبب ذلك من اضطراب في صحته، فيلجأ إلى الاحتجام لإزالة الاضطراب، ولإراحة بدنه مما يعاني، فكيف يقال مع هذا إن الحجامة تُلحق بالبدن ضعفاً يُلْجِيءُ إلى الإفطار؟
…رابعاً: أما القول إن العلة باقية وإنه يصح القياس عليها فهذا قول صحيح، ولكنه إنما يكون كذلك إن كان الحكمُ مُحْكَماً وثابتاً لم ينسخ، وفي مسألتنا هذه لا يقال ذلك لأنَّ الحكم منسوخٌ.
……لهذه الأمور الأربعة فإننا نقول: إن هذا الحديث لا يصح أن يُنظر إليه على أنه معارِضٌ للقول بجواز الحجامة. وبذلك يثبت عندنا حكم جواز الحجامة للصائم.