responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني المؤلف : النفراوي، شهاب الدين    الجزء : 1  صفحة : 77
السَّيِّئَاتِ وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ صَائِرًا إلَى مَشِيئَتِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــQمَعَهُ مِنْ التَّوْبَةِ؟ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ الْمَحْدُودُ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقِصَاصَ كَفَّارَةٌ وَمُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: السَّاقِطُ حَقُّ الْوَلِيِّ وَحَقُّ الْمَقْتُولِ بَاقٍ.
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ حَقُّهُ وَصَلَ إلَيْهِ، وَأَيُّ حَقٍّ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ ظُلْمًا تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِالْقَتْلِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا» وَفِي آخَرَ: «لَا يَمُرُّ الْقَتْلُ بِذَنْبٍ إلَّا مَحَاهُ وَلَوْلَا الْقَتْلُ مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ» .
الْخَامِسُ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ إنَّ مِنْ يَوْمِ الطُّلُوعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحْمَلِ النِّزَاعِ.
قَالَهُ الْحَافِظُ، وَبَحْثُ الْقُرْطُبِيِّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْغَرْغَرَةِ فِي الْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ وَلَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَقَوْلُنَا فِي الْكَافِرِ إلَّا لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ لِجُنُونٍ أَوْ صِبًا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْ لَهُمْ قَوْلَهُ: (عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ) لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَيْهَا وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ وَالْأَصْلُ عَنْ السَّيِّئَاتِ الْكَبَائِرُ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ، وَالْحَقُّ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّوْبَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا وَشَرْعًا أَنْ يَصْفَحَ عَنْهَا وَيُكَفِّرَهَا عَنْ عَبْدِهِ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ، وَإِذَا كَانَ يَصْفَحُ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ فَصَغَائِرُهَا بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مُكَفِّرَاتِهَا كَثِيرَةٌ وَلِذَا قَالَ: (وَغَفَرَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (لَهُمْ) الذُّنُوبَ (الصَّغَائِرَ) أَيْ سَتَرَهَا وَأَخْفَاهَا عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَتَرَكَ مُؤَاخَذَةَ فَاعِلِهَا (بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ) قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] أَيْ الصَّغَائِرَ، وَالْمُرَادُ بِاجْتِنَابِهَا مَا تَشْمَلُ التَّوْبَةَ مِنْهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا لَا مَا يَخُصُّ عَدَمَ مُقَارَفَتِهَا أَصْلًا، وَأَمَّا اجْتِنَابُهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَا تُغْفَرُ بِهِ الصَّغَائِرُ، فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْمُصَنِّفِ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّغَائِرُ مُقَدِّمَاتٍ لِلْكَبَائِرِ وَمُتَعَلِّقَةً بِهَا أَمْ لَا، فَمَنْ قَبَّلَ فَمًا مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَتَجَنَّبَ شُرْبَ الْخَمْرِ مَثَلًا غُفِرَتْ قُبْلَتُهُ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ كَوْنَ الصَّغَائِرِ مُقَدِّمَاتٍ لِلْكَبَائِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا تُغْفَرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ بِنَحْوِ الصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَبِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تُجْتَنَبْ الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفَّرُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إلَّا الصَّغَائِرُ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ الْمَفْعُولَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ مَحْضُ الْعَفْوِ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لَا تُكَفِّرُ الْمَذْكُورَاتُ شَيْئًا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِمَا ذُكِرَ حَيْثُ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ أَمْ لَا، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ تَكْفِيرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِلصَّغَائِرِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبْ لَمْ تُكَفِّرْ شَيْئًا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَقَدْ عَلِمْت تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ كَبَائِرُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ فَضْلُ اللَّهِ لَا الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَعَ الْكَبَائِرِ لَا يُكَفَّرُ شَيْءٌ كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَكَذَا قَالَهُ اللَّقَانِيُّ، وَمِنْ الْمُكَفِّرَاتِ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» . وَمِنْ الْمُكَفِّرَاتِ حُصُولُ الْمَصَائِبِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٌ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ وَصَبٌّ وَلَا نَصَبٌ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» . فَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَكْفِيرِ الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَمَا ثَقُلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مَشَقَّتُهُ، وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ رَفْعُ دَرَجَاتٍ وَزِيَادَةُ حَسَنَاتٍ.
قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَمُقَابِلُهُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ تُكَفِّرُ الْخَطَايَا فَقَطْ وَلَا يَحْصُلُ بِهَا رَفْعُ دَرَجَاتٍ وَلَا كِتَابَةُ حَسَنَاتٍ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمَذْكُورَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ عَامٌّ فِيمَنْ صَبَرَ عَلَيْهَا وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ، لَكِنَّ الصَّابِرَ يَجْتَمِعُ لَهُ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ، وَغَيْرَ الصَّابِرِ وَهُوَ الْمُتَسَخِّطُ الَّذِي لَمْ يَرْضَ بِالْقَضَاءِ قَدْ يَعُودُ عَلَيْهِ الَّذِي كُفِّرَ بِالْمُصِيبَةِ أَوْ الْمَرَضِ، وَبِمَا قَرَّرْنَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلْمَرِيضِ، وَلِكُلِّ مُصَابٍ بِنَحْوِ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَك كَفَّارَةً لِجَوَازِ الدُّعَاءِ بِمَا عَلِمْت السَّلَامَةَ مِنْهُ، وَأَيْضًا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدَّاعِي أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الْمُصَابِ مَا يُخِلُّ بِثَوَابِ الْمُصِيبَةِ.

اسم الکتاب : الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني المؤلف : النفراوي، شهاب الدين    الجزء : 1  صفحة : 77
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست