responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : المستصفى المؤلف : الغزالي، أبو حامد    الجزء : 1  صفحة : 51
كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ عَقْلُ عَاقِلٍ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوُجُوبِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَلَا يَنْظُرْ، فَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى الدَّوْرِ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ قِيلَ: الْعَاقِلُ لَا يَخْلُو عَنْ خَاطِرَيْنِ يَخْطِرَانِ لَهُ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ إنْ نَظَرَ وَشَكَرَ أُثِيبَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إنْ تَرَكَ النَّظَرَ عُوقِبَ، فَيَلُوحُ لَهُ عَلَى الْقُرْبِ وُجُوبُ سُلُوكِ طَرِيقِ الْأَمْنِ.
قُلْنَا: كَمْ مِنْ عَاقِلٍ انْقَضَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ وَلَمْ يَخْطِرْ لَهُ هَذَا الْخَاطِرُ، بَلْ قَدْ يَخْطِرُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَكَيْفَ أُعَذِّبُ نَفْسِي بِلَا فَائِدَةٍ تَرْجِعُ إلَيَّ وَلَا إلَى الْمَعْبُودِ؟ ثُمَّ إنْ كَانَ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ الْخَاطِرِ بَعْدَ إنْذَارِ النَّبِيِّ وَتَحْذِيرِهِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ الْمَخَافَةَ اسْتَحَثَّهُ طَبْعُهُ عَلَى الِاحْتِرَازِ، فَإِنَّ الِاسْتِشْعَارَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِرِ عَنْ الْعَقْلِ. فَإِنْ سَمَّى مُسَمٍّ مُعْتَرِفَ الْوُجُوبِ مُوجِبًا فَقَدْ تَجَوَّزَ فِي الْكَلَامِ، بَلْ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَجَازَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ مُوجِبٌ أَيْ: مُرَجِّحٌ عَلَى التَّرْكِ وَالنَّبِيُّ مُخْبِرٌ وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ وَالطَّبْعُ بَاعِثٌ وَالْمُعْجِزَةُ مُمَكِّنَةٌ مِنْ التَّعْرِيفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَةٌ الْأَفْعَالُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ]
ِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَظْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوَقْفِ. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهِ بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، أَمَّا إبْطَالُ مَذْهَبِ الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْمُبَاحُ يَسْتَدْعِي مُبِيحًا كَمَا يَسْتَدْعِي الْعِلْمُ وَالذِّكْرُ ذَاكِرًا وَعَالِمًا. وَالْمُبِيحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ خَيَّرَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِخِطَابِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابٌ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرٌ فَلَمْ تَكُنْ إبَاحَةٌ. وَإِنْ عَنَوْا بِكَوْنِهِ مُبَاحًا أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ فَقَدْ أَصَابُوا فِي الْمَعْنَى وَأَخْطَئُوا فِي اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِمْ وَتَرْكِهِمْ حَرَجٌ.
وَالْأَفْعَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَعْنِي مَا يَصْدُرُ مِنْ اللَّهِ، لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهَا؛ لَكِنَّهُ مَتَى انْتَفَى التَّخْيِيرُ مِنْ الْمُخَيِّرِ انْتَفَتْ الْإِبَاحَةُ، فَإِنْ اسْتَجْرَأَ مُسْتَجْرِئٌ عَلَى إطْلَاقِ اسْمِ الْمُبَاحِ عَلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا نَفْيَ الْحَرَجِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُسْتَكْرَهًا. فَإِنْ قِيلَ: الْعَقْلُ هُوَ الْمُبِيحُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ إذْ حَرَّمَ الْقَبِيحَ وَأَوْجَبَ الْحَسَنَ وَخَيَّرَ فِيمَا لَيْسَ بِحَسَنٍ وَلَا قَبِيحٍ.
قُلْنَا تَحْسِينُ الْعَقْلِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ تَسْمِيَةُ الْعَقْلِ مُبِيحًا مَجَازٌ كَتَسْمِيَتِهِ مُوجِبًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ يُعَرِّفُ التَّرْجِيحَ وَيُعَرِّفُ انْتِفَاءَ التَّرْجِيحِ وَيَكُونُ مَعْنَى وُجُوبِهِ رُجْحَانَ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِهِ وَالْعَقْلُ يُعَرِّفُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُبَاحًا انْتِفَاءُ التَّرْجِيحِ، وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لَا مُبِيحٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَجِّحِ، وَلَا مُسَوٍّ، لَكِنَّهُ مُعَرِّفٌ لِلرُّجْحَانِ وَالِاسْتِوَاءِ. ثُمَّ نَقُولُ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى أَصْحَابِ الْوَقْفِ إذَا أَنْكَرُوا اسْتِوَاءَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَقَالُوا مَا مِنْ فِعْلٍ مِمَّا لَا يُحَسِّنُهُ الْعَقْلُ وَلَا يُقَبِّحهُ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِوَصْفٍ ذَاتِيٍّ لِأَجْلِهِ يَكُونُ لُطْفًا نَاهِيًا عَنْ الْفَحْشَاءِ دَاعِيًا إلَى الْعِبَادَةِ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهِ، فَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِوَصْفٍ ذَاتِيٍّ يَدْعُو بِسَبَبِهِ إلَى الْفَحْشَاءِ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَقَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ؟ هَذَا مَذْهَبُهُمْ.
ثُمَّ يَقُولُونَ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَظْرِ إذْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ اسْتِوَاءَ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ قَبِيحٌ، وَاَللَّهُ

اسم الکتاب : المستصفى المؤلف : الغزالي، أبو حامد    الجزء : 1  صفحة : 51
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست