responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب    الجزء : 1  صفحة : 518
ومع أننا نحن- في هذه الفانية- لا نعرف نوع الحياة التي يحياها الشهداء، إلا ما يبلغنا من وصفها في الأحاديث الصحاح.. إلا أن هذا النص الصادق من العليم الخبير كفيل وحده بأن يغير مفاهيمنا للموت والحياة، وما بينهما من انفصال والتئام. وكفيل وحده بأن يعلمنا أن الأمور في حقيقتها ليست كما هي في ظواهرها التي ندركها وأننا حين ننشئ مفاهيمنا للحقائق المطلقة بالاستناد إلى الظواهر التي ندركها. لا ننتهي إلى إدراك حقيقي لها وأنه أولى لنا أن ننتظر البيان في شأنها ممن يملك البيان سبحانه وتعالى.
فهؤلاء ناس منا، يقتلون، وتفارقهم الحياة التي نعرف ظواهرها، ويفارقون الحياة كما تبدو لنا من ظاهرها. ولكن لأنهم: «قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وتجردوا له من كل الأعراض والأعراض الجزئية الصغيرة واتصلت أرواحهم بالله، فجادوا بأرواحهم في سبيله.. لأنهم قتلوا كذلك، فإن الله- سبحانه- يخبرنا في الخبر الصادق، أنهم ليسوا أمواتاً. وينهانا أن نحسبهم كذلك، ويؤكد لنا أنهم أحياء عنده، وأنهم يرزقون.
فيتلقون رزقه لهم استقبال الأحياء. 170- ويخبرنا كذلك بما لهم من خصائص الحياة الأخرى:
«فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ» ..
فهم يستقبلون رزق الله بالفرح لأنهم يدركون أنه «مِنْ فَضْلِهِ» عليهم. فهو دليل رضاه وهم قد قتلوا في سبيل الله. فأي شيء يفرحهم إذن أكثر من رزقه الذي يتمثل فيه رضاه؟
ثم هم مشغولون بمن وراءهم من إخوانهم وهم مستبشرون لهم لما علموه من رضى الله عن المؤمنين المجاهدين:
«وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ» .
إنهم لم ينفصلوا من إخوانهم «بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ» ولم تنقطع بهم صلاتهم. إنهم «أَحْياءٌ» كذلك معهم، مستبشرون بما لهم في الدنيا والآخرة. موضع استبشارهم لهم: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» .. 171- وقد عرفوا هذا واستيقنوه من حياتهم «عِنْدَ رَبِّهِمْ» ومن تلقيهم لما يفيضه عليهم من نعمة وفضل، ومن يقينهم بأن هذا شأن الله مع المؤمنين الصادقين. وأنه لا يضيع أجر المؤمنين..
فما الذي يبقى من خصائص الحياة غير متحقق للشهداء- الذين قتلوا في سبيل الله؟ - وما الذي يفصلهم عن إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم؟ وما الذي يجعل هذه النقلة موضع حسرة وفقدان ووحشة في نفس الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وهي أولى أن تكون موضع غبطة ورضى وأنس، عن هذه الرحلة إلى جوار الله، مع هذا الاتصال بالأحياء والحياة! إنها تعديل كامل لمفهوم الموت- متى كان في سبيل الله- وللمشاعر المصاحبة له في نفوس المجاهدين أنفسهم، وفي النفوس التي يخلفونها من ورائهم. وإفساح لمجال الحياة ومشاعرها وصورها، بحيث تتجاوز نطاق هذه العاجلة، كما تتجاوز مظاهر الحياة الزائلة. وحيث تستقر في مجال فسيح عريض، لا تعترضه الحواجز التي تقوم في أذهاننا وتصوراتنا عن هذه النقلة من صورة إلى صورة، ومن حياة إلى حياة! ووفقاً لهذا المفهوم الجديد الذي أقامته هذه الآية ونظائرها من القرآن الكريم في قلوب المسلمين، سارت خطى المجاهدين الكرام في طلب الشهادة- في سبيل الله- وكانت منها تلك النماذج التي ذكرنا بعضها في مقدمات

اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب    الجزء : 1  صفحة : 518
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست