اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 517
قتلوا في سبيل الله ليسوا أمواتاً بل أحياء. أحياء عند ربهم يرزقون لم ينقطعوا عن حياة الجماعة المسلمة من بعدهم ولا عن أحداثها، فهم متأثرون بها، مؤثرون فيها، والتأثير والتأثر أهم خصائص الحياة.
ويربط بين حياة الشهداء في معركة أحد وبين الأحداث التي تلت استشهادهم برباط محكم، ثم ينتقل إلى تصوير موقف العصبة المؤمنة، التي استجابت لله والرسول بعد كل ما أصابها من القرح، وخرجت تتعقب قريشاً بعد ذهابها خوفاً من كرة قريش على المدينة، ولم تبال تخويف الناس بجموع قريش، متوكلة على الله وحده، محققة بهذا الموقف معنى الإيمان وحقيقته:
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ. الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ. الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ، فَزادَهُمْ إِيماناً، وَقالُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ، وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ، وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ.. إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ، فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ..
لقد شاء الله بعد أن جلا في قلوب المؤمنين حقيقة القدر والأجل، وتحدى ما يبثه المنافقون من شكوك وبلبلة وحسرات بقولهم عن القتلى: «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» فقال يتحداهم: «قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ..
شاء الله بعد أن أراح القلوب المؤمنة على صدر هذه الحقيقة الثابتة.. أن يزيد هذه القلوب طمأنينة وراحة.
فكشف لها عن مصير الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله- وليس هنالك شهداء إلا الذين يقتلون في سبيل الله خالصة قلوبهم لهذا المعنى، مجردة من كل ملابسة أخرى- فإذا هؤلاء الشهداء أحياء، لهم كل خصائص الأحياء. فهم «يُرْزَقُونَ» عند ربهم. وهم فرحون بما آتاهم الله من فضله. وهم يستبشرون بمصائر من وراءهم من المؤمنين. وهم يحفلون الأحداث التي تمر بمن خلفهم من إخوانهم.. فهذه خصائص الأحياء: من متاع واستبشار واهتمام وتأثر وتأثير. فما الحسرة على فراقهم؟ وهم أحياء موصولون بالأحياء وبالأحداث، فوق ما نالهم من فضل الله، وفوق ما لقوا عنده من الرزق والمكانة؟ وما هذه الفواصل التي يقيمها الناس في تصوراتهم بين الشهيد الحي ومن خلفه من إخوانه؟ والتي يقيمونها بين عالم الحياة وعالم ما بعد الحياة؟ ولا فواصل ولا حواجز بالقياس إلى المؤمنين، الذين يتعاملون هنا وهناك مع الله..؟
إن جلاء هذه الحقيقة الكبيرة ذو قيمة ضخمة في تصور الأمور. إنها تعدّل- بل تنشئ إنشاء- تصور المسلم للحركة الكونية التي تتنوع معها صور الحياة وأوضاعها، وهي موصولة لا تنقطع فليس الموت خاتمة المطاف بل ليس حاجزاً بين ما قبله وما بعده على الإطلاق! إنها نظرة جديدة لهذا الأمر، ذات آثار ضخمة في مشاعر المؤمنين، واستقبالهم للحياة والموت، وتصورهم لما هنا وما هناك.
«وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» ..
والآية نص في النهي عن حسبان أن الذين قتلوا في سبيل الله، وفارقوا هذه الحياة، وبعدوا عن أعين الناس.. أموات.. ونص كذلك في إثبات أنهم «أَحْياءٌ» .. «عِنْدَ رَبِّهِمْ» . ثم يلي هذا النهي وهذا الإثبات، وصف ما لهم من خصائص الحياة. فهم «يُرْزَقُونَ» ..
اسم الکتاب : في ظلال القرآن المؤلف : سيد قطب الجزء : 1 صفحة : 517