responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 10  صفحة : 205
مِنْ قَتْلِ أَحَدِ وَلَدَيْ آدَمَ لِأَخِيهِ فِي أَوَّلِ النَّشْأَةِ، وَعَهْدِ سَلَامَةِ الْفِطْرَةِ مِنْ تَأْثِيرِ التَّنَازُعِ فِي شُئُونِ الْحَيَاةِ، وَمِنْ فِعْلَةِ إِخْوَةِ يُوسُفَ بِهِ وَهُمْ مِنْ أَسْلَمِ النَّاسِ أَخْلَاقًا وَخَيْرِهِمْ وِرَاثَةً.
وَالْحَقُّ فِيمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا الْوَحْيُ مِنْ قَتْلِ قَابِيلَ لِأَخِيهِ هَابِيلَ أَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا فِي اسْتِعْدَادِ الْبَشَرِ مِنَ التَّنَازُعِ بَيْنَ غَرَائِزِ الْفِطْرَةِ بِالتَّعَارُضِ بَيْنَ عَاطِفَةٍ وَشِيجَةِ الرَّحِمِ، وَحُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ، وَالِامْتِيَازِ عَلَى الْأَقْرَانِ فِي رَغَائِبِ النَّفْسِ وَمَنَافِعِهَا، وَمَا قَدْ يَلِدُ مِنَ الْحَسَدِ، وَمَا قَدْ يَتْبَعُ الْحَسَدَ مِنَ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ. فَضَرَبَ اللهُ لَنَا مَثَلًا لِبَيَانِ هَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ ; لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ بَيَانَ كَوْنِ غَرِيزَةِ الدِّينِ بَلْ هِدَايَتِهِ هِيَ الْمُهَذِّبَةَ لِلْفِطْرَةِ الْبَشَرِيَّةِ بِتَرْجِيحِ الْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ وَالْخَيْرِ عَلَى الشَّرِّ، فَكَانَ قَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ النَّزْعَةُ الثَّانِيَةُ، وَهَابِيلُ مَثَلًا لِمَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْأَوْلَى بِتَرْجِيحِ هِدَايَةِ الدِّينِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (5: 28 و29) وَالدَّلِيلُ عَلَى مَحَبَّةِ
الْأُخُوَّةِ، وَوَشِيجَةِ الرَّحِمِ فِي نَفْسِ قَابِيلَ، وَتَنَازُعِهَا مَعَ حُبِّ الْعُلُوِّ وَالرُّجْحَانِ عَلَى أَخِيهِ أَوْ مُسَاوَاتِهِ وَحَسَدِهِ لِتَقَبُّلِ قُرْبَانِهِ دُونَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5: 30) فَإِنَّ التَّعْبِيرَ عَنْ تَرْجِيحِ دَاعِيَةِ الشَّرِّ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنَ الْحَسَدِ الْعَارِضِ عَلَى عَاطِفَةِ حُبِّ الْأُخُوَّةِ وَرَحْمَةِ الرَّحِمِ " بِالتَّطْوِيعِ " مِنْ أَبْلَغِ تَحْدِيدِ الْقُرْآنِ لِدَقَائِقِ الْحَقَائِقِ بِاللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، فَإِنَّ مَعْنَى صِيغَةِ التَّفْعِيلِ التَّكْرَارُ وَالتَّدْرِيجُ فِي مُحَاوَلَةِ الشَّيْءِ كَتَرْوِيضِ الْفَرَسِ الْجَمُوحِ، وَتَذْلِيلِ الْبَعِيرِ الصَّعْبِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَابِيلَ كَانَ يَجِدُ مِنْ نَوَازِعِ الْفِطْرَةِ فِي نَفْسِهِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ مَانِعًا يَصُدُّهَا عَمَّا زَيَّنَهُ لَهُ الْحَسَدُ مِنْ قَتْلِ أَخِيهِ، وَأَنَّهَا مَا زَالَتْ تَأْمُرُهُ وَيَعْصِيهَا حَتَّى حَمَلَتْهُ عَلَى طَاعَتِهَا بَعْدَ جَهْدٍ وَعَنَاءٍ. وَقَدْ شَرَحْنَا هَذَا الْمَعْنَى شَرْحًا وَاسِعًا فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ [ص285 ج6 ط الْهَيْئَةِ] .
وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا الْحَسَدِ مِنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ: كَبُرَ عَلَيْهِمْ إِقْبَالُ أَبِيهِمْ يَعْقُوبَ بِكُلِّ وَجْهِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ عَلَى هَذَا الِابْنِ الصَّغِيرِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَنْفَعَهُ أَوْ يَنْفَعَ الْأُسْرَةَ بِخِدْمَةٍ وَلَا حِمَايَةٍ وَلَا غَيْرِهَا مِنْ مَوَاضِعِ آمَالِ الْآبَاءِ فِي الْأَبْنَاءِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ عَلَى قُوَّتِهِمْ، وَقِيَامِهِمْ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأَبُ وَالْأُسْرَةُ، فَزَيَّنَ لَهُمُ الْحَسَدُ أَنْ يَقْتُلُوهُ أَوْ يُغَرِّبُوهُ; لِيَجْتَمِعَ الشَّمْلُ، وَيَخْلُوَ لَهُمْ وَجْهُ أَبِيهِمْ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، وَيَكُونُوا بِذَلِكَ قَوْمًا صَالِحِينَ بِزَوَالِ سَبَبِ الشِّقَاقِ وَالْفَسَادِ فِيهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ بَعْدَ التَّشَاوُرِ رَجَّحُوا تَغْرِيبَهُ وَإِبْعَادَهُ عَنْ أَبِيهِ عِنْدَمَا أَشَارَ بِهِ بَعْضُهُمْ، وَلَوْلَا عَاطِفَةُ الرَّحِمِ، وَهِدَايَةُ الدِّينِ لَمَا رَضِيَ الْعَشَرَةُ بِرَأْيِ الْوَاحِدِ فِي تَرْكِ قَتْلِهِ. وَلِمَاذَا نَحْفَظُ هَذِهِ الْوَقَائِعَ الشَّاذَّةَ، وَنَنْسَى الْأَمْرَ الْغَالِبَ الْأَعَمَّ، وَهُوَ تَوَادُّ الْأُخُوَّةِ وَتَعَاوُنُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ بِبَاعِثِ الْغَرِيزَةِ وَلَوَازِمِهَا؟ ! وَمِنْهُ مَا كَانَ مِنْ إِحْسَانِ يُوسُفَ إِلَى إِخْوَتِهِ، ثُمَّ عَفْوِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ مَعِيشَتِهِ مَعَهُمْ؟ بَعْدَ هَذَا أُذَكِّرُ الْقَارِئَ الَّذِي أَخَافُ عَلَيْهِ فَسَادَ الْأَفْكَارِ الْمَادِّيَّةِ الْمُغْرِيَةِ بِعَدَاوَةِ الْأُخُوَّةِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 10  صفحة : 205
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست