responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 275
أَمَّا هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي قَضَى اللهُ أَنْ تُقِيمُوا فِيهَا إِلَى أَجَلٍ مَحْدُودٍ، فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُنْبِتَ هَذِهِ الْبُقُولَ، وَأَنَّ اللهَ - جَلَّ شَأْنُهُ - لَمْ يَقْضِ عَلَيْكُمْ بِالتِّيهِ فِي هَذِهِ الْبَرِّيَّةِ إِلَّا لِجُبْنِكُمْ وَضَعْفِ عَزَائِمِكُمْ عَنْ مُغَالَبَةِ مَنْ دُونِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ، فَلَوْ صَحَّ مَا تَزْعُمُونَ مِنْ كَرَاهَتِكُمْ لِلطَّعَامِ الْوَاحِدِ، فَأَنْتُمُ الَّذِينَ قَضَيْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ بِمَا فَرَطَ مِنْكُمْ. فَإِنْ أَرَدْتُمُ الْخَلَاصَ مِمَّا كَرِهْتُمْ، فَأَقْدِمُوا عَلَى مُحَارَبَةِ مَنْ يَلِيكُمْ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ الْمَوْعُودَةِ، فَإِنَّ اللهَ كَافِلٌ لَكُمُ النَّصْرَ عَلَيْهِمْ، وَعِنْدَ ذَلِكَ تَجِدُونَ طَلِبَتَكُمْ، فَالْتَمِسُوا الْخَيْرَ فِي أَنْفُسِكُمْ وَفِي أَفْعَالِكُمْ، فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْعَامِلِينَ.
قَالَ - تَعَالَى -: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) الذِّلَّةُ وَالذُّلُّ خُلُقٌ خَبِيثٌ مِنْ أَخْلَاقِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ يُضَادُّ الْإِبَاءَ وَالْعِزَّةَ، وَأَصْلُ الْمَادَّةِ فِيهِ مَعْنَى اللِّينِ. فَالذِّلُّ بِالْكَسْرِ: اللِّينُ، وَبِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ: ضِدَّ الصُّعُوبَةِ، وَإِذَا تَتَبَّعْتَ الْمَادَّةَ وَجَدْتَهَا لَا تَخْلُو مِنْ هَذَا الْمَعْنَى. صَاحِبُ هَذَا الْخُلُقِ لَيِّنٌ يَنْفَعِلُ لِكُلِّ فَاعِلٍ، وَلَا يَأْبَى ضَيْمَ ضَائِمٍ. غَيْرَ أَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الَّذِي يُهَوِّنُ عَلَى النَّفْسِ قَبُولَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ غَالِبًا عَلَى الْبَدَنِ وَفِي الْقَوْلِ إِلَّا عِنْدَ الِاسْتِذْلَالِ وَالْقَهْرِ. وَكَثِيرًا مَا تَرَى الْأَذِلَّاءَ تَحْسَبُهُمْ
أَعِزَّاءَ يَخْتَالُونَ فِي مِشْيَتِهِمْ مِنَ الْكِبْرِيَاءِ، وَيُبَاهُونَ بِمَا لَهُمْ مِنْ سَلَفٍ وَآبَاءٍ، وَرُبَّمَا فَاخَرُوا مَنْ لَا يَخْشَوْنَ سَطْوَتَهُ مِنَ الْكُبَرَاءِ:
وَإِذَا مَا خَلَا الْجَبَانُ بِأَرْضٍ ... طَلَبَ الطَّعْنَ وَحْدَهُ وَالنِّزَالَا
وَلَكِنْ مَتَى شَعَرَ الذَّلِيلُ بِنِيَّةٍ مِنْ نَفْسِ الْقَاهِرِ، أَوْ طَافَ بِذِهْنِهِ خَيَالُ يَدٍ تَمْتَدُّ إِلَيْهِ اسْتَخْذَى وَاسْتَكَانَ، وَظَهَرَ السُّكُونُ عَلَى بَدَنِهِ، وَاشْتَمَلَ الْخُشُوعُ عَلَى قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ، وَهَذَا الْأَثَرُ الَّذِي يَسْطَعُ مِنَ النَّفْسِ عَلَى الْبَدَنِ هُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْمَسْكَنَةَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْفَقْرُ مَسْكَنَةً؛ لِأَنَّ الْعَائِلَ الْمُحْتَاجَ تَضْعُفُ حَرَكَتُهُ وَيَذْهَبُ نَشَاطُهُ، فَهُوَ بِعَدَمِ مَا يَسُدُّ عَوَزَهُ كَأَنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ عَالَمِ الْجَمَادِ، فَلَا تَظْهَرُ فِيهِ حَاجَةُ الْأَحْيَاءِ فَيَسْكُنُ. وَالْمُشَاهَدَةُ تُرْشِدُنَا إِلَى تَحْقِيقِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَسْكَنَةِ فِي أَوْضَاعِ أَعْضَائِهِمْ وَمَا يَبْدُو عَلَى وُجُوهِهِمْ وَمَا طُبِعَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. فَضَرْبُ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ عَلَى الْيَهُودِ هُوَ جَعْلُ الذُّلِّ وَضَعْفِ الْعَزِيمَةِ مُحِيطِينَ بِهِمْ كَمَا تُحِيطُ الْقُبَّةُ الْمَضْرُوبَةُ بِمَنْ فِيهَا.
أَوْ إِلْصَاقُهُمَا بِطِبَاعِهِمْ كَمَا تُطْبَعُ الطُّغْرَّى عَلَى السِّكَّةِ، (وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) أَيْ رَجَعُوا بِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ أَوْ عَادَ بِصَفْقَةِ الْمَغْبُونِ إِذَا كَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَوْطِهِ وَمُنْتَهَى سَعْيِهِ، وَكَذَلِكَ كَانَ آخِرُ أَطْوَارِ الْيَهُودِ فِي بَغْيِهِمْ أَيَّامَ مُلْكِهِمْ. وَالْمُرَادُ بِهِ: فَقْدُ الْمُلْكِ وَمَا يَتْبَعُهُ. وَقَالَ شَيْخُنَا: اسْتَحَقُّوا غَضَبَهُ وَمَنِ اسْتَحَقَّهُ فَقَدْ أَصَابَهُ، فَقَدْ غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَتَنْكِيرُ الْغَضَبِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ نَوْعٌ عَظِيمٌ مِنْ سَخَطِهِ جَلَّ شَأْنُهُ. (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ) (أَقُولُ) أَيْ ذَلِكَ الْعِقَابُ بِضَرْبِ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ وَبِالْغَضَبِ الْإِلَهِيِّ بِسَبَبِ مَا جَرَوْا عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ

اسم الکتاب : تفسير المنار المؤلف : رشيد رضا، محمد    الجزء : 1  صفحة : 275
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست