حقيقية الإيمان الشرعية
مضى الحديث عن الجيل الأول الذي رباه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذلك الجيل الذي كانت حياته الواقعية حقيقة حية للإيمان كما فهموه وتربوا عليه، وهذا ما جعلهم أبعد شيء عن النظريات المجردة في أي مجال، فما بالك ببعدهم عنها في دينهم وإيمانهم الذي يعيشون حقيقته ويتحركون به وله.
حتى العلم الشرعي نفسه لم يكونوا يتلقونه معلومات تراكمية كما صنعت الأجيال من بعد، بل كانوا كما قال بعضهم: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن غلمان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن فازددنا به إيمانا" [1] .
هذا الإيمان الذي تلقوه لم يكن - على الإطلاق - درسا يسمى "درس العقيدة" يقال فيه: "إن الإيمان قول وعمل، وإن الطاعات كلها داخلة في الإيمان" - كما يصنع أكثر متأخري أهل السنة الذين أهملوا كثيرا من حقائق الإيمان واحتفظوا برسمه ولفظه - فضلا عن أن يكون درساً كلامياً أو فلسفياً يقال فيه: "الإيمان هو التصديق، والتصديق اعتقاد نسبة الصدق إلى المخبر بدلالة المعجزة، والمعجزة أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي ... إلخ" كما هو الحال في دروس العقيدة في أكثر العالم الإسلامي اليوم وفي القرون الأخيرة الماضية.
إن معايشة الجيل الأول للوحي وصاحبه صلى الله عليه وسلم مع ما آتاهم الله من سلامة الفطرة وصحة الفهم وحضور البديهة، جعلتهم أصدق الناس نظرا وأقلهم تكلفا وأحسنهم هديا.
فإن سئلوا عن أمر كان جوابهم أوجز بيان وأشفاه وأبينه، إن لم يكن من ذات نور الوحي فهو قبس من مشكاته.
وإن في مسألة الإيمان - تلك المسألة التي تشعبت فيها الآراء وتنافرت فيها الفرق وتقاتلت عليها الأمة - لأصدق دليل على هذا. [1] رواه ابن ماجه رقم (61) ، عن جندب بن عبد الله، والحزور الغلام الناضج النمو، ورواه عبد الله بن أحمد، السنة (1/97) بسند صحيح.