ولما لم أجد لهذا ذكراً عندهم خرجت بنتيجة وضعتها أول الأمر على أنها افتراض ثم صدقها البحث التاريخي المستقصي؛ وهي أن عقيدة المرجئة لم تكن على الإطلاق ثمرة نظر في النصوص الشرعية ولا وليدة اجتهاد عقلي سوي، وإنما هي وليدة مواقف انفعالية جدلية أفرزتها المعارك الكلامية الطاحنة بين الفرق البدعية، تلك الفرق التي كان جهلها بالشرع وإعراضها عنه سببا في تعلقها لدفع خصومها بأوهام ذاتية أو تصورات غريبة منقولة عن مصادر وثنية [1] ، ولهذا جاءت أصولها الاعتقادية - لا سيما المرجئة - مجافية تماما للدين والفطرة والعقل والحقيقة الإنسانية.
ولست أدري أي الخيالين كان أسبق إلى عقول المرجئة وهي تؤسس هذه النظرية الهلامية: أهو تخيل أن الإنسان تمثال شاخص لا علم له ولا إرادة ولا إحساس، أم تخيل أن الإيمان قطعة جامدة هامدة لا تنتج إحساسا ولا إرادة ولا عملا؟
فعلى الخيال الأول يريدون إرغام العقول السوية على أن تتصور قلبا بشريا مزروعا في جسد تمثال! وعلى الخيال الآخر يريدون إرغامها على أن تتصور إنسانا حيا يعيش بقلب من الخشب أو الفخار الصامت!
والمهم أنه على كلا الحالين لا نجد خارج أذهان المرجئة إنسانا - أي لا نجد إيمانا - هذه صفته.
أما الإنسان ذاك الذي خلقه الله تعالى بطبيعته حارثا همّاماً حيا حساسا مريدا عاملا، فإنه لا يمكن - في الحالة السوية - أن يؤمن بشيء ولا يعمله، أو يعمل شيئا وهو لا يؤمن به.
فالصلة بين الإيمان - أيا كان - وبين العمل كالصلة بين العمل والحياة.
ولا مخرج للمرجئة من هذه الإلزامات جميعها إلا أن تقر بأن ما تتحدث عنه مسمية إياه إيمانا ليس هو الإيمان الشرعي، ولتسميه بعد ذلك ما شاءت!! [1] وأخيرا - بعد استقرار النظرية - يبحثون لها عن مستند من النصوص يتعسفونها تعسفا. بل وصل الأمر بهم إلى أن يضعوا الأحاديث في فضل الإرجاء وأهله وذم المخالفين لهم، ومن أشهر وضاعيهم: الجويباري. انظر: المجروحين (1/142) ، درء تعارض العقل والنقل (7/92) .