ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت: 56,57] إلى غير ذلك من الآيات المعرفة بالهجرة وثوابها وأنها الانتقال من الأوطان والمساكن ومفارقة الأهلين والإخوان في طاعة الله ومرضاته فالمهاجر من[1] هجر أهل الكفر والمعاصي بمفارقتهم والانتقال عنهم إلى محل لا يرى فيه منكرا ولا يسمع فيه باطلا تحيزا بدينه كما دل عليه الكتاب والسنة والعقل والفطرة وعليه المسلمون قاطبة.
فما أشبه هذا الرجل في صرف الهجرة عن حقيقتها الشرعية بالباطنية الملاحدة[2] في تأويلهم الشريعة على غير حقائقها التي أرداها الله من العباد.
قال العماد ابن كثير - في الآية الأولى-: يخبر تعالى عمن خرج مهاجرا في سيبل الله ابتغاء مرضاته وترك الأوطان والأهلين والخلان وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة دين الله {ثُمَّ قُتِلُوا} أي: في الجهاد {أَوْ مَاتُوا} حتف أنفهم[3] من غير قتال فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل كما قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء: 100] .4
ومن المعلوم بالضرورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هاجروا عن مكة وهي أفضل البلاد وأحبها إلى الله ولحقوا بالمدينة امتثالا لأمر الله وطلبا لمرضاته وعداوة لأعدائه وقد قال الله تعالى: فيمن لم يهاجر معهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} إلى قوله: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء:97] ولم يشمل هذا الوعيد إلا من ترك الهجرة لعدم الاستطاعة فقال: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ً} [النساء:97 99] وما سموا مهاجرين وإن كان معذورين ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [النساء:؛75] .
فسبحان الله ما أسرع هذا الرجل إلى الخطأ والخطل وإن كان لا يعذر
1 "ط": من. ساقطة. [2] كالأسماعيلية والنصيرية والبهرة والدروز وما تفرع عنهم من الفرق الضالة. ينظر فتاوي شيخ الإسلام ابن تيمية 35/145 وما بعدها.
3 "ط": أنوفهم.
4 تفسير الحافظ ابن كثير 5/443.