يقول: إن الأيام قد تترك عادتها عندك من قصد ذوي الفضل، لحصولهم في ذمتك وجوارك، وتعود أوقاتهم بك عامرة، بأن يدركوا مطلوبهم بعد أن كانت خراباً.
وقيل: معناه أن الأيام تغير كل إنسان وتبدل الأحوال، فلا آمن أن تصل إليك فتحدث في أخلاقك تغييرا، كما تفعل في نفسها ضد خلقها، من عمارة بعد خراب.
وقيل: أراد إن عادة الأيام عندنا دفع حقنا، وعندك إيصال حقك إليك، وأوقاتها عندنا خراب، وعندك عامرة.
ولا ملك إلاّ أنت والملك فضلةٌ ... كأنّك نصلٌ فيه وهو قراب
يقول: قوام الملك سياستك، فالملك إنما هو أنت وما سواك فضلة، كما أن العامل هو السيف والقراب فضله.
أرى لي بقربي منك عيناً قريرةً ... وإن كان قرباً بالبعاد يشاب
يقول: إن قربي منك مشوب بالحجاب والبعد، فتارةً أحجب عنك وأخرى ينحجب الحجاب وأقرب، فمتى قربت منك قرت عيني بالقرب الذي يتفق، فكأن الحجاب لم يكن.
وقيل: أراد بالبعاد، الوحشة التي كانت بينه وبين كافور.
وهل نافعي أن ترفع الحجب بيننا ... ودون الّذي أمّلت منك حجاب
يقول: أي نفع في رفع الحجاب؟! إذا كان ما أؤمل منك حجاب. يعني: أنت لا تبذل لي ما أملته منك من العطاء والوداد.
أقلّ سلامي حبّ ما خفّ عنكم ... وأسكت كيما لا يكون جواب
نصب حب لأنه مفعول له وعنكم في موضع عليكم ويكون ها هنا فعل تام لا يحتاج إلى خبر.
يقول: أقل سلامي عليكم، طلباً للتخفيف عليك، وأسكت عن إذكارك بحاجتي؛ لئلا أكلفك الجواب، ولئلا يكون له جواب أكرهه.
وفي النّفس حاجاتٌ وفيك فطانةٌ ... سكوتي بيانٌ عندها وخطاب
الهاء في عندها يعود إلى لفظ الفطانة.
يقول: في نفسي حاجات ولك معرفة، فسكوتي عند معرفتك يغنيني عن بيانها وإظهارها بالخطاب. ومثله لأبي تمام:
وإذا الجود كان عوني على المر ... ء تقاضيته بترك التّقاضي
وما أنا بالباغي على الحبّ رشوةً ... ضعيفٌ هوىً يبغي عليه ثواب
يقول: من أحب إنساناً لمنفعته فحبه ضعيف، وأنا أحبك حباً خالصاً، لا أطلب عليه رشوة.
وما طلبت منك إلا طلب الإدلال لمن عذلني على قصدك. أني أصبت في مخالفتي قوله، فإذا رأى منزلتي عندك علم فساد قوله وصواب رأيي
وما شئت إلاّ أن أدلّ عواذلي ... على أنّ رأيي في هواك صواب
يقول: لم أرد ما أطلبه إلا كي أدل عواذلي اللاتي عذلنني في قصدك. أني كنت مصيبا في هواك، وأنك تحسن إلي وتقضي حق زيارتي.
وأعلم قوماً خالفوني فشرّقوا ... وغرّبت أنّي قد ظفرت وخابوا
يقول: أردت أن أعلم من خالفني، وقصد ملكاً غيرك، أنه قد خاب وأني ظفرت. ومثله للبحتري:
وأشهد أنّي في اختيارك دونهم ... مؤدّىً إلى حظّي ومتّبعٌ رشدي
جرى الخلف إلاّ فيك أنّك واحدٌ ... وأنّك ليثٌ والملوك ذئاب
يقول: قد وقع الخلاف في كل شيء إلا فيك، فإنهم اتفقوا على أنك واحد ولا نظير لك، وأنك أسد والملوك ذئاب بالنسبة إليك. فأنت أوحدهم، كما أن الأسد أوحد السباع ومثله لأبي تمام:
لو أنّ إجماعنا في فضل سؤدده ... في الدّين لم يختلف في الأمة اثنان
وأنّك إن قويست صحّف قارئ ... ذئاباً ولم يخطئ فقال: ذباب
يقول: لو صحف إنسان قول: إنك ليث والملوك ذئاب فجعل مكانه ذباب لم يخطئ في تصحيفه؛ لأن الأمر كذلك على الحقيقة.
وإنّ مديح النّاس حقٌّ وباطلٌ ... ومدحك حقٌّ ليس فيه كذاب
وهذا معطوف على ما قبله: أي قد اتفقوا على أن مدح غيرك فيه حق وباطل، وأن مدحك حق لا كذب فيه.
إذا نلت منك الودّ فالمال هيّنٌ ... وكلّ الّذي فوق التّراب تراب
يقول: إذا حصل لي ودك فلا أبالي بعده بالمال؛ لأن المال لا قدر له، فهو تراب كأصله الذي تولد منه.
وما كنت لولا أنت إلاّ مهاجراً ... له كلّ يوم بلدةٌ وصحاب
يقول: لولا أنت وحبي قربك ما كنت بمصر، بل كنت كل يوم في بلد ومعي أصحاب.
ولكنّك الدّنيا إليّ حبيبةٌ ... فما عنك لي إلاّ إليك ذهاب
يقول: إنما أقمت عندك لأنك دنياي، فلا منصرف لي عنك، إذ الدنيا حبيبة إلى كل أحد، فأنت محبوب إلي فليس لي ذهاب إلا إليك.
وحبيبة خبر ابتداء محذوف: أي هي حبيبة إلي.
هذا آخر ما أنشده أبو الطيب في الأسود.