أحدهما ما ذكره ابن جني عن أبي الطيب أنه قال: إن حارت عيني فعيون رواحلي عيني، وبغامهن بغامي، يعني به طريقة الدعاء، فكأنه قال: أنا بهيمة مثلهن إن تحيرت. كما إذا قال القائل: إن فعلت كذا فأنت حمار.
والثاني يقول: أنا أقتدي بعيون رواحلي إن حارت عيني، فعينها تقوم مقام عيني.
وقوله: كل بغام رازحة بغامي يعني: أني أهتدي بالبغام: الذي هو صوت الرازحة، وأستدل بصوتها على جادة الطريق، لأن الروازح لا تئن إلا على جواد الطريق، فيكون بغامهن بمنزلة بغامي الذي أهتدي به، ودليل على الطريق.
وقيل: معناه أن صوتها ينوب عن صوتي في شكوى التعب.
فقد أرد المياه بغير هادٍ ... سوى عدّى لها برق الغمام
قيل: إن العرب إذا عدت للسحاب مئة برقة، لم تشك أنها ماطرة فتنتجعها. وقيل سبعين برقة.
يقول: أنا أعد البرق وأنتجع مواقع غيثه فيكون عدى البرق دليلاً على الماء، فلا أحتاج أي دليل آخر من الناس يدلني إليه.
يذمّ لمهجتي ربّي وسيفي ... إذا احتاج الوحيد إلى الذّمام
يذم أي يجعلني في ذمته، والذمة هنا: الغرر.
يقول: إذا سرت فإنما أسير في ذمة الله تعالى. وذمة سيفي، ولا أحتاج إلى خفير يجيرني إذا احتاج إليه غيري.
وحكى أنه لما رجع من عند عضد الدولة وبلغ الأهواز أحضر خفير العرب وقاطعهم على الخفارة فوقع النزاع بينه وبينهم في نصف دينار، سألوه زيادة على ما بذل لهم فلم يجبهم إليه، وضرب فرسه وهو ينشد هذا البيت.
يذمّ لمهجتي ربّي وسيفي ... البيت
فقتل عند دير العاقول:
ولا أمسى لأهل البخل ضيفاً ... وليس قرىً سوى مخّ النّعام
يقول: لا أمسى ضيف البخيل، ولو لم أجد شيئاً البتة. وجعل مخ النعام كناية عن ذلك؛ إذ النعام لا مخ لها.
ولمّا صار ودّ النّاس خبّاً ... جزيت على ابتسامٍ بابتسام
الخب: الخديعة.
يقول: لما نافقني الناس بالوداد، عاشرتهم كما عاشروني، وجازيتهم ابتساماً على ابتسامهم.
وصرت أشكّ فيمن أصطفيه ... لعلمي أنّه بعض الأنام
يقول: لما رأيت الناس مطبوعين على الغدر! صرت أشك فيمن أصطفيه وأثق به من أهل أو ولد، لمعرفني أنه بعض الناس، والغدر قد عمهم.
وقيل: أراد بمن أصطفيه نفسه، وهذا بعيد لأن الإنسان لا يشك في نفسه.
يحبّ العاقلون على التّصافي ... وحبّ الجاهلين على الوسام
الوسام، والوسامة، والميسم: حسن الوجه.
يقول: العاقل يحب من يصطفيه في الوداد. والجاهل يحب من حسن وجهه.
وآنف من أخي لأبي وأمّي ... إذا ما لم أجده من الكرام
يقول: إن أخي من الأم والأب إذا لم يكن كريماً لجانبته وأنفت أن يكون لي أخاً مع لؤمه.
يعني: لا أصحب إلا كرام الناس وخيارهم.
أرى الأجداد تغلبها كثيراً ... على الأولاد، أخلاق اللّئام
كثيراً: نصب على الظرف، أي كثيرا من الأزمنة، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف.
يقول: إذا كان الولد لئيماً حال لؤم الولد بين الولد والجد، فينسب إلى اللؤم، ويعرف به دون الجد، فيكون كأنه ولد من اللؤم لا من الأب.
ولست بقانعٍ من كلّ فضلٍ ... بأن أعزى إلى جدٍّ همام
يقول: لا أرضى من الفضل والشرف بمجرد كرم النسب، حتى أكسب لنفسي مفاخر أتشرف بذكرها.
عجبت لمن له قدٌّ وحدٌّ ... وينبو نبوة القضم الكهام
القد: القامة. والحد يجوز أن يريد به أن يكون قد بلغ حد الرجال، وأن يريد به الحدة في الأمر. والقضم: المتكسر. والكهام: الكليل.
يقول: عجبت ممن له صورة الرجل الكامل، وآلة تبلغه إلى معالي الأمور فلم يبلغ إليها، وينبو كالسيف الكليل.
ومن يجد الطّريق إلى المعالي ... فلا يذر المطيّ بلا سنام
من في موضع جر عطفاً على قوله: عجبت لمن له قد وقيل: استفهام.
يقول: عجبت ممن يجد الطريق إلى المعالي فلا يسير إليها حتى يهزل المطي بسيره ويذيب أسنمتها تحته، فتبقى بغير سنام،
ولم أر في عيوب النّاس عيباً ... كنقص القادرين على التّمام
يقول: ليس في الإنسان عيب أقبح من أن يكون ناقصاً مع قدرته على الكمال.
وقيل: معناه ليس عيب أقبح من الكسل.
أقمت بأرض مصر فلا ورائي ... تخبّ بي الرّكاب ولا أمامي