يعني: أن الإنسان يتم أمر الدهر في الإيقاع بنا.
ومراد النّفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وأن نتفانى
يقول: ما يريد الإنسان من هذه الدنيا من المأكول والملبوس والنعم، أحقر من أن يقتل بعضنا بعضاً لأجله؛ لأنه لا يدوم لأحد.
غير أن الفتى يلاقي المنايا ... كالحاتٍ ولا يلاقي الهوانا
كالحات أي عابسات، وقيل: شديدات، وهي نصب على الحال.
يقول: إن الدنيا لا قدر لها، ولكن احتمال الهوان أصعب من ملاقاة الموت.
ولو أنّ الحياة تبقى لحيٍّ ... لعددنا أضلّنا الشّجعانا
يقول: لو كانت الحياة تدوم، لكان الشجعان الذين يتعرضون للقتل أكثر الناس ضلالاً وأغبنهم رأياً.
وإذا لم يكن من الموت بدٌّ ... فمن العجز أن تكون جبانا
يقول: فإذا كانت الحياة منقطعة بالموت، والموت لا محيص عنه بحال، والجبن لا ينجى منه، فاستعمال الجبن هو العجز والذل.
كلّ ما لم يكن من الصّعب في الأن ... فس سهلٌ فيها إذا هو كانا
ما لم يكن: أي ما لم يقع.
يقول: إن كل ما لم يقع مما يستصعب في النفوس، فهو سله إذا وقع.
وكان الأستاذ أبو المسك اصطنع شبيباً بن جرير العقيلي فقلده عمان والبلقاء وما بينهما من البر والجبال، فعلت منزلته وزادت رتبته واشتدت شوكته وغزا العرب في منابتها، من السماوة وغيرها، واجتمعت العرب إليه وكثر من حوله وطمع في الأسود وأنف من طاعته، فسولت له نفسه أخذ دمشق والعصيان بها، فسار إليها في نحو عشرة آلاف، وقاتله أهلها وسلطانها واستأمن إليه جمهور الجند الذين كانوا بها، وغلقت أبوابها واستعصموا بالحجارة والنشاب، فترك بعض أصحابه على الثلاثة الأبواب التي تلي المصلي ليشغلهم بهم، ودار هو حتى دخل على القوات، حتى انتهى إلى باب الجابية، وحال بين الوالي وبين المدينة ليأخذها.
وكان يقدم أصحابه، فزعموا أن امرأة دلت على رأسه صخرة. واختلف الناس في أمره. فقال قوم: وقعت يد فرسه في قناة ولم تخلص يدها فسقط، وكان مكسور الكتف والترقوة بسقطة سقطها عن الفرس في الميدان بعمان قبل ذلك بقليل، وسار إلى دمشق قبل تمام الانجبار وذكروا أنه سار من سقطته فمشى خطوات، ثم غلب فجلس وضرب بيده ألماً إلى قائم سيفه وجعل يذب حوله، وكان شرب وقت ركوبه سويقاً، فزعم قوم أنه طرح له فيه شيء، فلما سار وحمى عليه الحديد وازدحم الناس حوله عمل فيه؛ غير أنه سقط ولم ير أثر شيء من السلاح ولا الحجارة التي أصابته، وكثر تعجب الناس منه ومن أمره، حتى قال قوم: كان يتعهده صرع فأصابه ذلك في تلك الساعة.
وانهزم أصحابه لما رأوا ذلك، وخالفوا الموضع الذي دخلوا منه، وأرادوا الخروج منه معه فقتل منهم أربع مئة فارس وبضعة عشر، وأخذ رأسه، ووردت الكتب إلى مصر بخبره يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وثلاث مئة وطالب الأسود أبا الطيب بذكره فقال، وأنشدها يوم السبت لست خلون منه.
عدوّك مذمومٌ بكلّ لسان ... ولو كان من أعدائك القمران
القمران: الشمس والقمر.
يقول: كل من عاداك فهو مذموم عند كل أحد، حتى أن الشمس والقمر لو عادياك لذمهما جميع الناس: يعني: أن الخلق أجمعوا على فضلك وإقبال دولتك، حتى أن من عاداك لم يوجد في وجميع الأمم من يحمده.
وقد صرف هذا المعنى إلى الذم كأنه قال: أنت رذل ساقط، ومن كان كذلك لا يعاديه إلا مثله، فإذا كان من يعاديك مثلك فهو مذموم بكل لسان، حتى لو عاداك القمران لكانا مذمومين بمساجلتهما إياك.
ولله سرٌّ في علاك وإنّما ... كلام العدى ضربٌ من الهذيان
يقول: لله تعالى سر بما أعلى قدرك، وإنما رفع قدرك لما علم من فضلك، فكلام العدى لا معنى له مع إرادة الله تعالى.
وقد صرف إلى الهجو.
وقيل: أراد أن الله تعالى إنما بلغك هذه المنزلة ليغيظ بك الأحرار، وليعلم الناس أن الدنيا لا قدر لها عند الله تعالى، إذ لو كان لها قدر لما مكنك منها مع حقارتك ومهانة قدرك.
أتلتمس الأعداء بعد الّذي رأت ... قيام دليلٍ أو وضوح بيان؟!
يقول: قد ظهر للأعداء دليل على ما قلت: إن لله تعالى سر في علاك بموت شبيب حين غدر بك، فهل يطلبون دليلاً أوضح من هذا؟!
رأت كلّ من ينوي لك الغدر يبتلي ... بغدر حياةٍ أو بغدر زمان