اسم الکتاب : مصادر الشعر الجاهلي المؤلف : الأسد، ناصر الدين الجزء : 1 صفحة : 276
ولنا، بعد هذا، أن نتساءل عما وقف بهذه الأسانيد عند هؤلاء العلماء فلم تتجاوزهم إلا في هذا القليل النادر الذي لا غناء فيه والذي ضربنا له الأمثلة؟ والجواب على ذلك قائم فيما يبدو لنا على أمرين، الأول: هو أن رواية الجاهلية بأخبارها وأشعارها وإن كانت ظلت متصلة منذ الجاهلية نفسها إلى زمن هؤلاء العلماء على ما بيناه في الفصول السابقة إلا أنها كانت، قبل القرن الثاني، من الثقافة العامة التي لا يختص بها أحد، ومع ذلك لا يتجرد منها أحد. فقد كان المفسر والمحدث والفقيه والقاص يروون شعر الجاهلية وأخبارها؛ وكانت هذه الأخبار والأشعار آلة من آلاتهم يتوسلون بها لتفسير لفظ في كتاب الله أو حديث رسوله، ويسوقونها ليفصلوا بها مجمل ما ورد في القرآن من القصص وأخبار الأمم، أو ليزينوا بهذا الشعر ما يقصونه على الخلفاء في القصور وعلى العامة في المساجد من قصص تاريخية أو دينية. وكانت ثمة طائفة أخرى تحفظ أخبار الجاهلية وأشعارها غير هذه الطائفة من العلماء المفسرين أو المحدثين أو الفقهاء: فكان الخلفاء. والأمراء والولاة وأبناؤهم يتعلمون الشعر الجاهلي ويرويهم إياه مؤدبوهم، وكان أبناء الشاعر وسلالته وأفراد قبيلته يحفظون شعره وينشدونه في مجالسهم ومحافلهم، ولكن هؤلاء جميعًا لم يكونوا من العلماء المختصين بهذا الضرب من العلم، المنصرفين إليه، المشتغلين به، كما صار شأن العلماء في القرن الثاني. ومع ذلك فإننا نجد، في مثل الأسانيد القليلة التي ذكرناها، أن بعض الشعر الجاهلي يرويه علماء القرن الثاني عن بعض من ذكرناها، من المفسرين والمحدثين والفقهاء، أو أبناء الشاعر وأفراد قبيلته.
فالرواية الأدبية بمعناها العلمي الذي عرفه القرن الثاني لم تكن موجودة -إذا صح ما ذهبنا إليه- قبل زمن أبي عمرو بن العلاء وحماد الراوية ومن عاصرهما.
ومن هنا كان هؤلاء هم -في الغالب الأعم- نهاية الإسناد في الرواية الأدبية، يأخذها من جاء بعدهم -على مر العصور- على أنها، في جملتها، صحيحة
اسم الکتاب : مصادر الشعر الجاهلي المؤلف : الأسد، ناصر الدين الجزء : 1 صفحة : 276