اسم الکتاب : في تاريخ الأدب الجاهلي المؤلف : الجندي، علي الجزء : 1 صفحة : 51
وارتحالهم عنها بعد انتهائه إلى منازلهم الأصلية، كانت السبب فيما تردد ذكره في افتتاحيات القصائد الجاهلية، وقد ورد في الشعر الجاهلي، وتعليقات الباحثين عليها ما يؤيد ذلك، من ذلك مثلًا ما يقوله الأعلم الشنتمري في شرحه لبيتي امرئ القيس4:
فَلِلَّهِ عَيْنَا مَنْ رأى من تَفرق ... أَشت وأَنْأَى من فراق المُحَصَّبِ
فريقان، منهم جازعٌ بطن نَخْلَةٍ ... وآخر منهم قاطعٌ نجدَ كَبْكَبِ
فهو يقول: "تفرق القوم فرقتين، فمنهم من أخذ سفلًا، ومنهم من أخذ علوًا، وإنما يعنى افتراق الحيين بعد انقضاء المرتبع الذي كان يجمعهم، فيلقى به كل منهم من كان يحب، ورجوع كل حيّ إلى مائه وموضع إقامته"[5].
ولأنهم ما كانوا ينوون الإقامة في مثل هذه المواطن إقامة دائمة أو لمدة طويلة كانوا يصنعون بيوتهم فيها من خشب ضعيف، ويظللونها بالثمام. يقول الشنتمري في تعليقه على البيت[6].
أمرخ خيامهم أم عشر ... أم القلب في إثرهم منحدر
"المرخ: شجر خوار ضعيف يتخذ منه الزناد والخيام، وهو خشب ينصب بالمرتع ويظلل بالثمام، فيسكنونها، فإذا رجعوا إلى المياه تركوها حتى يعودوا إليها، وإنما يفعلون ذلك لأن ظل الثمام أبرد من ظل الأبنية. والعشر شجر ينبت بالغور، ومعنى البيت: يتساءل الشاعر فيقول: أأنجدوا أم أغاروا؟ أي أتوا نجدًا أم الغور أم لم ينزلوهما؟ ".
فديارهم كانت في أماكن معينة، وإنما كانوا يتحركون في أوقات العشب بدوابهم إلى مواطنه، ويتخذون فيها مساكن مما تنبته الأرض هناك من شجر وحشائش، ثم يعودون بعد انتهاء الكلأ إلى منازلهم الأصلية، وكما رأينا في تعليق الأعلم يبدو أن القوم كانوا دائمًا يعاودون الرجوع إلى هذه المواطن التي ينتجعونها في مواسم العشب، مما يؤيد أنهم كانوا يتمسكون بالمكان الذي ينزلونه في أي وقت، وفي أي مكان.
4 ديوان امرئ القيس. دار المعارف، ص43 ب: 11-12، والمحصب، الحصباء الذى يرمى في الحج، ويشبههم به في التفرق والتشتت في اتجاهات مختلفة ومتباعدة. [5] لفظة رجوع: معطوف على افتراق، ويقصد الرجوع إلى موضع الإقامة. [6] ديوان امرئ القيس، ص 154 ب6.
اسم الکتاب : في تاريخ الأدب الجاهلي المؤلف : الجندي، علي الجزء : 1 صفحة : 51