اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 95
الأدب عسر لا يسر 1:
منذ عودتي من أوربا بعد السنين الطويلة التي قضيتها بها وأنا أرسل للثقافة المقال تلو المقال فتنشر القليل وتمسك الكثير بحجة أن فيما أكتب عموضا وكثرة استطراد وإشارات إلى بعض الآداب الأجنبية، لا يستطيع القارئ المصري فهم معناها وقد خلا ذهنه مما تفترضه معلوما لديه من أسس الثروة العقلية التي يملكها مثقفو القوم في أوربا. والرأي عندها أنه من واجبنا أن نلحظ القارئ ونقدم إليه ما يتناسب وثقافته في وضوح وجلاء، وفي هذا إهدار لكل القيم، فالماء الوشل لا يعرف إلا لونا واحدا تتفق عليه كل الأبصار، ونحن نحرص على أن نترك له عمقه حتى تتهيأ له من تكافئ طبقاته تلك الألوان المتباينة تباين ما يلقى عليه من ضوء أو تنعكس فيه من ألوان السماء، وفي نفسي -إذ أقول ذلك- صور لبحيرة Bourget في جبال السفوا بفرنسا، فهناك تتغير ألوان مياهها بتغير حالات الجو وساعات النهار، فطورا تنحدر الأضواء عما يحيطها من جبال شامخة لتنتهي إلى صفحة الماء وكأنها مأخذ آلة مصورة تجتمع إليها الأشعة، فإذا بشدة البريق تلهينا عن لون مياهها، فكان البريق لونا، وطورا يخف الضوء بما انتشر فوقه من ظلال، وإذا بالماء في زرقة قاتمة أو خفيفة كالعين المبصرة. وكثيرا ما تعبس السماء فلا ترى إلا ما يشبه النحاس علاه الصدأ، وفي ذلك من الجلال مثل ما نحسه بإزاء أثر قديم قد كساه الزمن بذلك الطلاء القاتم، الذي يخلع على ما يكسوه من نبل القدم، ما يأخذ بكل نفسي صادقة الحس، وعلى شاكلة تلك البحيرة أود أن لو كان كل مقال، أود أن نترك له عمقه حتى لا يجد فيه كل قرئ ما يجد الآخر. والنفوس متباينة وبحكم هذا التباين نفسه لن نستطيع أن نقدم لكل منها ما تبغي، فالسبيل إلى تغذية النفوس بالحق والجمال لا يمكن أن يكون بغير ترك احتمالات لا حد لها ترقد تحت ألفاظنا فتلتقط منها كل نفس ما تريد.
وحسبما كان لونها الدائم أو الموقوت، ونحن بعد ذلك لا نكتب لنسكب ما في نفوسنا في أنفس الغير، وإنما لنعين كل نفس على الوعي بمكنونها؛ إذ النفوس عامرة بكل حق وجمال، والمقال الجيد هو ما يأخذ بتلك النفوس إلى حيث يستقر منها ذلك الحق وذلك الجمال.
1 هذه المقالة من أولى المقالات التي نشرت بالثقافة بعد عودتي من أوربا سنة 1939.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 95