responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 96
يخيل إليَّ أن الطبيعة البشرية كقطعة الرخام حلَّتها الطبيعة بأجمل "التجازيع" ولكنها مختفية كما هو الأمر في الرخام، ولكي تظهر تلك التجازيع لا بد لها من محك يذهب بالطبقة السطحية التي تخفيها. وهذا المحك في الطبيعة البشرية هو الحياة، فنحن إذ نكتب لا نفعل ذلك إلا لأن الحياة قد كشفت لنا عما في طبيعتنا من "تجازيع" نطلع الغير عليها لتعينهم على اكتشاف ما اكتشفنا، فيجدون في أنفسهم ما وجدنا، ذلك أنه وإن تكن تجاربنا الخاصة لن تغني الغير عن التجربة الذاتية، إلا أنه ما من شك في أن حياتنا الروحية خاضعة لقانون عام هو قانون "ادخار الطاقة" فالرواية التمثيلية نراها فتشفى النفس من غريزة مكبوتة أو أمل مكتوم، وكأننا أحيينا تلك الغريزة وحققنا ذلك الأمل، وهكذا تحل المشاهدة وما يصاحبها من مساهمة خيالية محل المزاولة الفعلية، وبهذا نجنب أنفسنا التجربة المباشرة، وندخر ما في جهدنا من طاقة، والأمر في الرواية كغيره في كل أثر أدبي أو فني.
وإذن فنحن نكتب لنساعد الغير على اكتشاف نفسه، ونحن نريحه بتجاربنا من المزاولة الفعلية، وخلاصة تجاربنا في أكثر الأحيان ليست من الوضوح بحيث يُظن إلا أن تكون تجارب مدعاة. فالحياة لسوء حظنا أعمق من أن تسلم إلينا أسرارها. والخلق الأدبي ليس خلقا عقليا بل خلق حواس، فليس لرجل الفن أن ينتظر حتى تأخذ الصور الحسية عنده دلالتها العقلية، وإلا حكمنا عليه ببعد طبيعته عن إمكان ذلك الخلق، وإنما هو يأخذها عند نبعها، قبل أن تصل إلى نفسه فتسقط في الميدان العقلي الذي يشترك فيه جميع الناس، وكيف نستطيع أن ندعي الخلق بما هو شائع بين البشر؟
ومن هذه الصورة الحسية نصوغ ما نعرضه على القارئ وقد شاطرنا صفة الإنسانية واثقين أنه واجد في نفسه ما يماثلها. ونحن بعد ذلك لا نعرض عليه ما في نفوسنا من حب أو ألم تطفلا منا وزجا له فيما لا يعنيه ليضيق بنا نفسا، بل لإيماننا بأنه يحب ويألم كما نحب ونألم، والواقع أنه ليس هناك أي خلق أدبي يسند إلى حادثة بذاتها، فالكاتب للغزل لا يتغنى بامرأة بعينها بالغا حبه لها ما بلغ، وإنما أقصى ما يستطيع أن يفعل هو أن يحضرها إلى نفسه ليخلق جوا يستطيع بفضل ما يشيع فيه من حرارة أن ينفذ إلى صميم النفس البشرية إطلاقا.
والفنان يعرف أنه صائر إلى الفناء، وهو منذ نشأته يحس أن في نفسه رسالة لا بد من أدائها، وهمه الأول هو تحديد تلك الرسالة وقد شاعت في نفسه غامضة، فليس لإنسان أن يزيده نصبا وقد شد عزمه لجمع ما انتثر من تلك الرسالة، ولا أن يطالبه بتأديتها دفعة واحدة، فلو أنه استطاع لما توانى، وإنما لنا وعلينا أن نمهله متلقين ما يحمل لنا من فتات، مقدرين له جهده، عالمين أنه خير للإنسانية أن تؤدي نفس واحدة رسالتها ولو نقطة نقطة من أن يملأ الناس آلاف الصفحات المستعارة.

اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 96
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست