اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 91
وعضد الدولة بقوله:
أروح وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا
فلو أني استطعت حفظت طرفي ... فلم أبصر به حتى أراكا
ولتعليل تلك اللغة في مخاطبة قوم لم يكن المتنبي يحبهم حبه الصادق لأمير حلب، يجب أن نفطن إلى حقائق نفسية أخرى عن الشاعر، وأخص تلك الحقائق اثنتان: الطموح والسذاجة، فالطموح من طبيعته أن يخلط بين الغايات والوسائل، فترى صاحبه يجب كل وسيلة إلى الغاية التي يستهدف، وكأن الغاية قد اختلطت بالوسيلة، وإذا اجتمعت السذاجة إلى الطموح -كما حدث عند المتنبي- لم يكن غريبا أن يحب الرجال الذين رأى فيهم كل وسائل إلى غاياته، وأن يسرف في هذا الحب عندما تخيل إليه سذاجته أن غاياته المحبوبة قد تحققت أو أصبحت في حكم المتحققة، ولعل في بيته الشهير:
وكل امرئ يولي الجميل محبب ... وكل مكان ينبت العز طيب
وما يمثل نفسية الرجل الطموح خير تمثيل، فهو لا يحب إلا من يولي الجميل ولا يرى الطيب إلا حيث ينبت العز. وحن الآن لا نناقش قيمة هذا الإحساس من الناحية الأخلاقية، ولكننا نقرر حقيقة نفسية ثابتة، نجدها عند النفوس المندفعة الطموحة الساذجة في الغالب، والمتنبي من بينها.
وينتهي بنا هذا التحليل السريع إلى نقطة البدء، وهي مقدرة المتنبي على الانفعال، وبهذه المقدرة نعلل استخدامه لغة العشق أيضا في الكلام على الحر كقوله:
أعلى الممالك ما يبني على الأسل ... والطعن عند محبيهن كالقُبَل
وقوله:
شجاع كأن الحرب عاشقة له ... إذا زارها فدته بالخيل والرجل
فأنت ترى الطعن عنده كالقبل، وترى الحرب عاشقة للشجاع، وأمثال ذلك كثير في شعره.
هذه هي الظاهرة التي لاحظها الثعالبي وقد عللناها بما نراه متمشيا مع نفسية الشاعر، وهي بعد لا تقف عند المدح أو الفروسية، بل تكاد تمتد إلى معظم شعره. والقراء لا ريب يذكرون نظرية صديقنا الباحث العميق محمود شاكر، وهي التي يزعم فيها أن المتنبي قد أحب خولة حب غرام. ومن أكبر أدلته على ذلك ما في رثائه من حرارة الألم، ونحن وإن كنا غير واثقين من صحة هذا الفرض، إلا أننا مغتبطين إلى الظاهرة العامة التي لاحظها صاحب اليتيمة وأمَّنا عليها، فالمتنبي -ككل شاعر كبير- غني بنغمات الحب.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 91