اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 156
أولا ترى مع ابن قتيبة أنه لا بد للشاعر مهما كان طبعه غنيا من مثير "وللشعر تارات يبعد فيها قريبه ويستصعب ريضه" وكذلك له "دواع تحت البطيء وتبعث المتكلف"، بل هبه واتاه الدافع؟ أتحسب أن الشعر جمرات من الإحساس؟ والجمرات تحرق، والإحساس العنيف يعقد اللسان. وإنما يكون الشعر عندما يسكن العنف وتهدأ حدقة العين فتستطيع الإبصار، عندئذ تستغل الإرادة ما بقي في النفس ويبدأ الشاعر في الجهد الذي لا يستقيم شعر بدونه. الشعر صناعة جيدها ما أحكم حتى اختفى. الشعر طبع ودوافع وإرادة وجهد وصناعة.
ونحن بعد لا نستطيع دائما كل ما نريد، ونحن بعد لا نصل دائما بجهدنا إلى الكمال، وموضع المشقة في الأدب ليس إلا في القدرة على إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ. قال ديهامل: "كم من مرة أستمع إلى رجال أو نساء يتحدثون وسط الجموع في عربة قطار، أو أثناء وجبة طعام، فتحدثني نفسي كل مرة: "ها قد وقعت على صفة نفسية، أو تسقطت علاقة أو لمحت دافعا خفيا، ولكني عاجز عن أن أصوغ ما اكتشفت ألفاظا، ربما أستطيع فيما بعد أن أصور ما أحسست به أما الآن فلا، وأنا أعلم أني إن لم أصب التوفيق فسيأتي من بعدي غيري يفيد من تجاربنا وتساعده عبقريته فينجح في العبارة عما لمحناه".
إخضاع الفكرة أو الإحساس للفظ هو ما يميز الأدب عن غيره من الفنون. الأدب طريقة من طرق العبارة عن النفس يعبر باللفظ، كما يعبر المصور بالألوان والناحت بالأوضاع، ومن ثم وجب أن يكون منهجه منهجا لغويا، وأنا أعرف ما يثيره هذا اللفظ في النفوس من مخاوف، فمن الناس من يظن أننا سنعود به إلى الدراسة اللفظية التي أفسدت الأدب وسلبته روحه، ولكن هذه خوف ظالم؛ لأن اللغة مستودع تراثنا الروحي، ومن الثابت أننا لا نملك من أفكارنا وأحساسيسنا إلا ما نستطيع إيداعه اللفظ الذي يوضح الفكرة ويميز الإحساس. وهذه النظرية الصحيحة هي موضع اعتزازنا بتفكير عبد القاهر.
ينكر عبد القاهر -كما رأينا- كل مزية في اللفظ، وهو في ذلك يناقض آراء الجاحظ في الفصاحة، ولكن هذا في الحق إنكار مسرف لا نقره، ونحن لا ندعي لرجلنا العصمة، ولا نضرب دائما بعصاه، والذي لا شك فيه أن لجرس الألفاظ -كما قلنا- وقعا إيجابيا كثيرا ما يعين الكاتب أو الشاعر على استنفاد[1] إحساسه، وذلك [1] خذ لذلك مثلا قول الدكتور أبوشادي:
عودي لنا يا أغاني أمسنا عودي ... وجددي حظ محروم وموعود
ثم ردد الشطر الأول عدة مرات تشعر لا ريب براحة في الصدر، كأنك كل مرة تطلق زفرة تشفي النفس، ثم تساءل عن مصدر ذلك فإنك لن تجده إلا في توفيق الشاعر بغريزته الصادقة إلى اختيار المدات بدلا من السواكن التي كانت تستطيع أن تؤدي نفس الوظيفة في الوزن.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 156