اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 155
نرفضها في عالم الروح، إننا نحارب قسر الفكرة، نحارب ادعاء العلم، نحارب التبجح بالمعرفة التي لا تغني، لنعرف كل شيء، على أن نكون قادرين على هضم ما نعرف، ولتشع المعرفة في كل ما نقول أو نكتب، ولكن ليكن الإشعاع من الداخل، ليكن إشعاعا لطيفا رقيقا خفيا، كذلك الذي ينساب إلى قلوبنا في جوف الليل من محبة الله.
ذلك عن النفس وعلم النفس، والأمر كذلك في روح العلم وقوانين العلم، فأنا كما أثور على إقحام قوانين علم النفس الهيكلية على الأدب، بينما أدعو إلى الصدور عن معرفة حقيقية بالنفس البشرية، واعين بما نفعل، حتى لا نتهم بأننا كجوردان الذي ظل يتكلم النثر عشرات السنين دون أن يفطن لما يفعل، أقول: إنني على نفس النحو أدعو جاهدا إلى الأخذ في الأدب بروح العلم، وأما اصطناع قوانينه فلا.
روح العلم غير قوانين العلم، ليست إلا ما ذكرت وأكرر: أمانة عقلية، وخضوع للموضوع وتأدب على التصديق، وتنحية للهواء، ثم استقصاء للتفاصيل، وقصر من الأحكام، وتدعيم للإحساس بنظرات العقل، واتخاذ الإحساس وسيلة مشروعة للمعرفة بتحديده، وتمييزه، ومراجعته، وتعليله ما أمكن التعليل. وروح العلم موقف تقفه النفس من الناس والأشياء، وأما العلم فجموعة من القوانين التي تفسر عادة عالم المادة، تفسر مظاهره، لنأخذ بروح العلم؛ لأنها روح خلقة نبيلة، وأما محاولة تطبيق قوانين العلم على الأدب، فقد رأينا مثلا دالا على خطئها عندما عرضنا لما فعله برونتيير ووضحنا ما سار إليه من ضلال، الأدب مفارقات. الأدب كالنفس البشرية حفنة من الماء لن تتميز ذراته.
المنهج الفقهي إذن يتضمن روح العلم ويعتز بالنفاذ إلى حقائق النفوس، ولكن هذا ليس ما يميزه عن غيره من المناهج، وروح العلم وفهم النفوس حقيقتان مستقرتان في كل نشاط عقلي منتج، حتى أننا لا نرى فيهما شيئا يخصصهما بالمنهج الأدبي. المنهج الفقهي يستمد حقيقته من مادة درسه وهي الأدب، ولقد قلنا في مقام سابق: إن منهجا لا ينتزع من موضوعه مستمدا مبادئه من ذلك الموضوع ذاته، لا يمكن أن يستقيم. والأدب لا ريب فن لغوي، وتلك حقيقة يجب أن نوضحها لنفهمها.
قالوا: إن الأدب ملكة النفس، طبع مفطور، فالشاعر يغني كما يغرد الطائر، ولكن هذا أعجم وذاك مبين، وللطائر دوفعه، وما أظن الطبع خالقا شيئا بذاته،
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 155