responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 154
أدرك تلك الآثار، وهي لا ريب مكيفة في كل نفس بملابسات لا حصر لها، وأين لي باستقصاء كل ما تثيره في النفوس من تداعٍ؟ أنا لا أنجح في التفاهم مع جاري إلا استنادا إلى التقسيم، فنميز الأبيض؛ لأنه يختلف عن الأسود أو الأحمر؛ ولكن أهذه معرفة حقه؟ أفيها إدراك لحقائق الأشياء؟ وإدراك لآثارها المتميزة بالنفس؟ فإن لم تكن، أَوَلا ترون أن الذين يريدون فهم النفس البشرية بفضل نظريات السيكولوجيا، إنما يريدون تشريح فراشة "بسكينة بصل".
وأنا لا أجهل أنه قد يصاح بي: ولكن هناك التحليل العلمي الذي يرد الألوان إلى عناصرها، وأدرك هذا الاعتراض الذي لا يرهبني في شيء؛ لأنني وإن كنت أجل رجال العلم، وأعتز بنتائج أبحاثهم التي مكنتنا من الحياة وردت عنا الكثير من الآلام، إلا أنني أنكر الإنكار كله أن يستطيع العلم أن يحل محل نفسي في إدراك حقائق الأشياء، من منا يستطيع أن يزعم أن في مقدروه أن يعرف طعم شراب لم يذقه بمعرفة عناصره الكيماوية ونسبها؟ من منا يجرؤ أن يدعي أنه يعرف حيوانا لم يره قط، بدراسة خلاياه تحت المجهر؟ من منا يصل إلى تصور جمال لوحة زيتية بقراءة وصف لها في دليل أحد المتحاف؟ ممن منا يتوهم أنه سيفهم نفسه بغير نفسه؟ أي قوانين وأي أبحاث ستبصرني بآلامي وأحلامي؟
معرفة النفس البشرية غير قوانين علم النفس ونظريات السيكولوجيا، وذلك بفرض أننا نحسن فهم تلك القوانين والنظريات، وقف بها عند ما تستطيعه، فما بالكم بهذا الوباء الذي تفشى بيننا في السنين الأخيرة فأخذنا نرى كتابنا وناقدينا يظنون تلك النظريات أثوابا تصلح لكل نفس، فإن ضاقت فلتمزق، وإن اتسعت فلتشجب، هناك وسيلة سهلة لإدراك الشخصية الروائية أو النموذج البشري، هي أن نتلقاه بقلوبنا كما خلقه أصحابه بقلوبهم، وأن نتحد به اتحادا شعريا، وهذا لا يتطلب إلا هبة من الله، هبة الإحساس ترهفه تجارب الحياة ويسعده خيال قوي يعيننا على أن نحيا حياة غيرنا وكأننا أصحاب تلك الحياة، وأما ما دون ذلك من علم ومعرفة فمكملات لن تسد نقصا جوهريا، ومتى جعلت من الأبله سقراطا؟!
ونحن بحاجة إلى الأمانة العقلية، إلى الخضوع لموضوع دراستنا، إلى انتزاع الحق من جوف الأشياء، وما نحاربه هو إملاء النظريات على الواقع، هو إتلاف الحقائق بالعلم الباطل، هو مداراة فرقنا الروحي بمصطلحات العلم الخاوية، هو ظننا أن المعرفة إدراك للظواهر التي يكتفي بها العلم في عالم المادة، ونحن

اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 154
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست