اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 157
على أن يسلم من التكلف والصنعة المقتسرة، ويثور الجرجاني كذلك على محسنات العسكري اللفظية، وهنا نؤيده مؤمنين بما يقول، وعنده "أن المزية تعرض بسبب المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موضع بعضها من بعض، واستعمال بعضها مع بعض" بل "ليس من فضل إلا بحسب الموضع وبحسب المعنى الذي تريد، والغرض الذي تؤم". ولكنه لا يريد بذلك إلى الأسلوب المسطح الذي لا نتوء فيه، وكتاباته تشعرك بأنه قد فطن إلى أن الأسلوب الفني الجيد هو الذي يصدر عن صاحبه، وقد سكنت الفكرة وسكن الإحساس إلى طرق أدائها -حقيقة كانت أم مجازية- سكونا طبيعيا، حتى لتحس بأن الفكرة والإحساس قد ولدا مجسمين في العبارة، فلا تدري أفطن الكاتب إلى الصورة أو لا، أم إلى موضوعها، أخلق الموضوع الصورة أم خلقت الصورة الموضوع؟
الكاتب الكبير يدرك ما في نفسه مكسوا مجسما، يدركه ملفوظا، يستشعر الفكر والإحساس مرتبطا بعوالم أخرى، وإذا بالمجاز جزء من الإحساس أو الفكرة، ومن ثم لم يكن هناك محل لأن نخشى اللفظية، وتلك لا تكون إلا عند من يدركون مواضيع قولهم إدراكا مجردا عن صورها، ثم يحتالون لوضعها في صور تظل منفصلة عنها، مصطنعة الإلصاق، ومن هذا النوع الكثير من المحسنات اللفظية المفضوحة؛ ولهذا نقول: إن الصناعة الحقة هي تلك التي تحكم حتى تختفي.
لا خوف إذن من أن يعود بنا عبد القاهر إلى اللفظية، وما يجوز أن يرهبنا هذا الخوف فنتخلى عن المنهج الطبيعي في دراسة الأدب، وما دمنا قد فطنا إلى الدور الذي يلعبه اللفظ في خلق مادة الأدب ذاتها، فمن واجبنا أن نأخذ في بحثنا بالمنهج الفقهي، ونحن بذلك نجمع بين عناصر الأدب الإنسانية وعناصره اللغوية؛ لأن هذه مستودع ثمين لا يقل قدرا عما أودع فيه، وبفضله -في النهاية- يتميز الأدب عن كل ما عداه.
ليست العبرة إذن عند عبد القاهر باللفظ في ذاته وإنما هي بالنظم.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 157