responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 142
وشاءت الأقدار أن ينفق ناقد فرنسي عظيم هو برونتير حياته في تطبيق ذلك المذهب على الأدب، فكتب سلسلة كتب بعنوان "تطور فنون الأدب" أخذ يحتال فيها لكي يثبت أن الأدب هو الآخر كالكائنات العضوية. فكما تطور القرد فأصبح إنسانا كذلك من الواجب أن يكون الأدب قد تطور فاستحال فنا من فنونه إلى فن آخر، ونظر فوجد الشعراء الرومانتيكيين يتحدثون في شعرهم عن الموت والحياة والبقاء والفناء، وعن الروح والله، وعن عظمة الإنسان وبؤسه في داخل الطبيعة وبالقياس إليها، وتذكر أن رجال الدين كانوا في القرن السابع عشر يتخذون تلك الموضوعات ذاتها مادة لوعظهم في خطبهم الدينية "Sermon" فقال: "إن الوعظ الديني قد تطور فأصبح شعرا غنائيا في القرن التاسع عشر". وهذا القول فيه من الحق ما كان يعرفه كافة المثقفين من تشابه موضوعات الوعظ الديني والشعر الغنائي الرومانتيكي، ولكن روح المذهب "Syteme" ورغبة هذا المفكر الكبير في أن يصوغ تلك الحقائق صياغة تماشي القوانين العضوية، وحرصه على أن يكون التطبيق عاما شاملا أفسد الكثير من أحكامه، وذهب بجانب كبير من قيمة مؤلفاته، التي أصبحنا ننظر إليها اليوم كوثائق تاريخية أكثر منها ككتب في تاريخ الأدب ونقد الأدب، وما لنا نذهب بعيدا وهأنا أجد لفظة "سيكولوجية" ترد في مقال الأستاذ خلف الله عدة مرات، وفي كل مرة لا تعدو أن تعبر عن أشياء معروفة قريبة بلفظة ضخمة تنزل بعقلي الدوار، وأنا لا أعرف ما هي "سيكولوجية الأدب" مثلا، وكأني بتلك اللفظة قد أخفت غموضا في نفس الكاتب، بل تعمية أخشى منها على نفسي وعلى غيري، بل لقد بلغ الأمر أن أصبحت لي أنا نفسي "سيكولوجية" فيها تصوف واندفاع وتأثرية. وكل تلك حقائق قد تكون صححية -وما أبرئ نفسي- ولكن أصحيح أيضا أنني أدخل في نوع محدود من أنواع الأجناس البشرية، وأن لي "خانة" يمكن أن أوضع فيها؟ في الحق أن هذا كله شرف لا أدعيه.
محاولة اقتحام العلم على الأدب إذن قد فشلت، وكان هذا من حسن حظ الأدب الذي هو أدق وأرهف وأعمق وأغنى من أن نخطط له طرقه. الأدب شيء غير دقيق بطبيعته، ومحاولة أخذه بالمعادلات جناية عليه. الأدب مفارقات، ونقد الأدب وضع مستمر للمشاكل الجزئية، فقد يكون جماله في تنكير اسم أو نظم جملة أو كبت إحساس أو خلق صورة أو التأليف بين العناصر الموسيقية في اللغة، ولقد يخلو من كثير من العناصر التي نعدها كالخيال والعاطفة وما إليها، ومع ذلك يروقنا لصياغته أو سذاجته.

اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 142
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست