اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 101
نستطيع أن ندرك الفجر، وأن نحس بنداه في نفوسنا بطرق شتى من حواسنا، عن طريق الأذن عندما نسمع لحنا موحيا، وعن طريق البصر إذا ما رأينا أول أشعته رؤية مباشرة أو في لوحة فنان، بل إن من النحاتين من استطاع أن يحمل الحجر وقعه في النفس، بأن مثل فتاة تخلع عنها غلائل النوم، وإلى ساقها طائر يبسط جناحيه البليلين، والشعراء بدورهم يصلون إلى ما يصل إليه كل هؤلاء، عندما يحدثنا أحدهم عن بزوغه وقد لاحت بالآفاق "أصابعه الوردية" بما فيها من رقة وصفاء.
وإذا صح أن معطيات الحواس تتلاقى في النفس التي تكون كلا لا يعرف تقاسيم العقل، استطعنا أن نفهم معنى الخلق الفني عند الشعراء؛ إذا كثيرا ما يكون بفضل إمكان تبادل الحواس صورها إمكانا نفسيا لا شك فيه، فهذا شاعر إنجليزي يطيل التحديق في ضوء المصباح فيقول: "إنه أخذ ينظر إلى الصمت في جوف الضياء"، وذلك آخر فرنسي يتحدث عن أزهار الربيع التي ترسل عطرها إلى السماء كما يرتفع البخور إلى قباب الكنائس، فترى الأول وقد تمثل الصمت شجا يرى، بينما بعثت نشوة الربيع بالآخر ما يشبه إيمان اليافع في قوته، فرأى الطبيعة معبدا تحوطه آفاق السماء وكأن عطر الزهر بخور، ومن الشعراء من يذكر "شربه" "للون" الشمس السائل، ومنهم من "يرى" ضوء أمسية الخريف في نعومة اللؤلؤ.
بل إن منهم من تتلاقى في عبارته وحدة النفس بوحدة الوجود على حد قول بودلير: "إن الأشياء تفكر خلاله كما يفكر خلاله"، وذلك عندما تأخذه نشوة الأحلام، فإذا بذاتيته قد امحت لتخلط بما يحوطه من جلال الطبيعة، ولكم من مرة نستمع إلى "همس" الرياح، فنفهم أنفسنا بصور الأشياء، كما نخلع على الطبيعة معاني الإنسان، ولكن تهزنا كلمة كيتس. "عندما يأتي إلى جواري عصفور ينقر الحصى يخيل إليَّ أني أنقر معه وأني أشاطره حياته".
وفي هاتين الوظيفتين ما يساعد على إيضاح تعريفنا للأدب بمعناه الصحيح "إنه العبارة الفنية عن موقف إنساني، عبارة موحية"؛ إذ من البين أن كل أدب هو قبل كل شيء صياغة لموقف إنساني، وأن بين الأمرين رابطة وثيقة؛ إذ في تلك الصياغة يتركز موقف الكاتب مما أمامه من عالم النفس أو عالم الطبيعة، وفي الصيغة التي يختار ينساب ذلك العنصر الشخصي الذي يميز الأدب عن التفكير المجرد، فهو يضيف إلى موضوع مشاهدته عنصرا من نفسه أو يتلقى منه عنصرا،
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 101