وما زال المنصرفون من موقف القضاء يمرون بنا هذا إلى جنته وذاك إلى ناره وأنا أسأل عن شأن كل منهم واحدا فواحدا فأرى سعيدا من كنت أحسبه شقيا، وشقيا من كنت أحسبه سعيدا، فسجلت أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على قلوبهم، لا على جوارحهم، ويسألهم عن نياتهم، لا عن أفعالهم، وأن لا سعادة إلا الصدق، ولا شقاء إلا الكذب، وعلمت أن الله لا يغفر من السيئات إلا ما كان هفوة من الهفوات يلم بها صاحبها إلماما ثم يندم عليها، ورأيت أن أكبر ما يعاقب الله عليه جناية المرء على أخيه بسفك دمه أو هتك عرضه أو سلب ماله، وأن أضعف الوسائل إلى الله ذلك الركوع والسجود، والقيام والقعود، فلو أن امرأ قضى حياته بين ليل قائم، ونهار صائم، ثم ظلم طفلا صغيرا في لقمة يختطفها من يده لاستحالت حسناته إلى سيئات، وما أغني عنه نسكه من الله شيئا.
وبينا أنا أحدث نفسي بهذا الحديث وأقلب النظر في وجوه تلك المواعظ والعبر إذا قال لي صاحبي: أتعرف هذين، وأشار إلى رجلين واقفين ناحية يتناجيان، أحدهما شيخ جليل أبيض اللحية، وثانيهما كهل نحيف قد اختلط مبيضه بمسوده، فما هي إلا النظرة الأولى حتى عرفت الرجلين العظيمين، رجل الإسلام "محمد عبده"