وقد كشف الأستاذ زكي الأرسوزي، رحمه الله، بحدسه، في كتابه (العبقرية العربية في لسانها/ 227) عن نحو من هذا في شأن الفعل في اللسان العربي، فقال: "إن اللسان العربي لسان بدئي، نشأ مع يقظة الحياة على المعنى، فسجل حركات الفعل، في حين أن اللغات الأخرى حديثة، وتحمل طابع المنطق فتهتم بالموضوع، أي الفاعل الذي يبدأ الجملة عندهم".
وعقب الدكتور إبراهيم السامرائي، في كتابه (الفعل زمانه وأبنيته) على ما ذهب إليه الجارم، فقال: "إن الجارم مفتقر أن يثبت هذا الرأي بالاستقراء الوافي الشافي، ليطلع علينا فيقول: أن الأساس عند العربي في الأخبار أن يبدأ بالفعل.. وأنى له أن يحقق هذا الاستقراء، وكيف يتحقق وكلام العرب المأثور لا يظفر به إنسان، والذي ضاع من كلامهم أكثر/ 206".
أقول قد جاء الجارم في كلامه هذا، بطرف مما جاء به الإمام عبد القاهر الجرجاني (481هـ) ، في كتابه المعروف (دلائل الإعجاز) ، في تمييز الجملة الفعلية من الاسمية، وقد استعاد بعض ألفاظه، كما سنبسط القول فيه، بعد.
وقول الجارم أن الجملة الفعلية، هي الغالب الكثير في التعبير، وأن الأساس عند العربي في الأخبار أن يبدأ بالفعل، يصِحُّ فيه الاستقراء، إذا طال من كلام الفصحاء، قدراً وافياً من الأمثلة. وهذا ما عمد إليه الإمام الجرجاني حين استقرأ أي التنزيل وكثيراً من شعر الأوائل، فتبين له أن العرب إنما تقدم الفاعل (في المعنى) إذا كان ثمة داع إلى تقديمه، كتبديد الشك أو دفع الإنكار في ذهن السامع، فتبدأ بذكره وتوقعه أولاً، فإذا لم يكن الحديث ما يتطلب ذلك، وهو الأكثر والأغلب، فإنها تبدأ بالفعل لتخبر السامع بحدث ابتدائي، أي بخبر خلاذهن المخاطب عنه وعن التردد فيه (دلائل الإعجاز/ 89) .