وهكذا ذهب ابن جني إلى أن المصدر، وهو الأصل في اشتقاق الفعل عند البصريين قد انتزع من الجوهر. وحين بحث الأئمة أسماء الأعيان وأسماء المعاني أيهما أسبق في النشأة وأوغل في القدم قدروا أن الأعيان في الموازنة هي المتقدمة، والمعاني هي المتخلفة حقيقة وأصلاً. فانظر إلى ما ذهب إليه السكاكي في كتابه مفتاح العلوم، فقد جعل الكلم المستقرأة نوعين: الأول ما "يشهد التأمل بتقدمه في باب الاعتبار والثاني ما جاء بخلاف ذلك" وهو المتخلف، فسلك في المتقدم (الجوامد) أي الجواهر، وفي المتخلف (الأفعال وما يتصل بها من الأسماء) أسماء المعاني والصفات. بل أكد أن أكثر ما يتصل بالأفعال من الأسماء هو فرع من الأفعال، وأردف: "إلا المصدر عند أصحابنا البصريين، رحمهم الله/ 14" فإنهم يعتدّون الفعل فرعاً عليه. وهو لم يشايعهم فيما انتحوه وقرروه، بل جاز مجاز الكوفيين في مخالفة البصريين، وذهب مذهبهم وجرى مجراهم فاعتد المصدر فرعاً على الفعل.
لم يكن كلام الأئمة أقل وضوحاً وأدنى دقة وجلاء حين بحثوا الجوهر والعرض فلم تغم عليهم معرفة في ذلك، أو تستسر حقيقة. فانظر إلى ما حكاه السيوطي في (الأشباه والنظائر/ 168) عن (الإيضاح في علل النحو للزجاجي) : "قد عرفناك أن الأشباه تستحق المرتبة والتقديم والتأخير على ضروب فنحكم لكل واحد منها بما يستحقه، وإن كانت لم توجد إلا مجتمعة. ألا ترى أنا نقول أن السواد عرض في الأسود، والجسم أقدم من العرض بالطبع والاستحقاق. وأن العرض قد يجوز أن يتوهم زائلاً، والجسم باق! فنقول أن الجسم الأسود قبل السواد، ونحن لم نر الجسم خالياً من السواد الذي هو فيه، ولا رأينا السواد قط عارياً عن الجسم، بل لا يجوز رؤيته لأن المرئيات إنما هي الأجسام الملونة، ولا تدرك الألوان خالية من الأجسام ولا الأجسام غير ملونة".
المصدر ولفعل