اسم الکتاب : الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين المؤلف : الأنباري، أبو البركات الجزء : 1 صفحة : 77
فأعمل الثاني في هذا البيت في مكانين: أحدهما "وَفّى" ولو أعمل الأول لقال: وفَّاه، والثاني "مُعَنًّى" ولو أعمل الأول لوجب إظهار الضمير بعد معنى؛ فيقول "وعزة ممطول معنى هو غريمها" وتقديره: وعزة مطول غريمها معنى هو؛ لأنه قد جرى على عزة، وهو فعل الغريم؛ فقد جرى على غير مَنْ هو له، واسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له وجب إظهار الضمير فيه، فلما لم يظهر الضمير دلّ على أنه قد أعمل الثاني، إلا أنهم يقولون على هذا: يجوز أن يكون قد أعمل الأول ولم يظهر الضمير وذلك جائز عندنا، وقد بينا فساد ذلك في اسم الفاعل إذا جرى على غير من هو له مستقصًى في موضعه.
وأما القياس فهو أن الفعل الثاني أقرب إلى الاسم من الفعل الأول؛ وليس في إعماله دون الأول نَقْصُ معنًى، فكان إعماله أولى، ألا ترى أنهم قالوا: "خشنت بصدره وصدر زيد" فيختارون إعمال الباء في المعطوف، ولا يختارون إعمال الفعل فيه؛ لأنها أقرب إليه منه؛ وليس في إعمالها نقض معنى؛ فكان إعمالها أولى.
والذي يدل على أن للقرب أثرًا أنه قد حملهم القربُ والجوارُ حتى قالوا: "جُحْرُ ضَبّ خَرِب" فأجروا خربٍ على ضبٍّ، وهو في الحقيقة صفة للجحر؛ لأن الضب لا يوصف بالخراب؛ فههنا أَوْلَى.
وأما الجواب عن كلمات الكوفيين: أما قول امرئ القيس:
[39]
فلو أن ما أسعى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي، ولم أطلب، قليلٌ من المال
= عليه أن يقول: وعزة ممطول هو معنى غريمها؛ فيبرز الضمير المستكن في الخبر الأول لنفس السبب الذي احتج به على الكوفيين، وهو أن الضمير المستكن في الخبر جارٍ على غير مبتدئة، وهذا الاحتجاج ملزم للبصريين لأنه مذهبهم وغير ملزم للكوفيين لأنهم لا يذهبون إليه كما قدمنا، والوجه الثالث: -وهو مترتب على الوجهين السابقين- أن النحارير من العلماء كابن مالك رحمه الله ذهبوا إلى أن هذه العبارة ليست من باب التنازع أصلًا؛ لأنه لا يصح أن يكون الشاعر قد أعمل العامل الأول كما لا يصح أن يكون قد أعمل العامل الثاني؛ لأنه لو أعمل أحدهما أيًا كان لوجب على مذهب البصريين أن يبرز ضمير المعمول مع العامل الذي لم يعمله في لفظ المعمول لكونه جاريًا على غير من هو له، وعلى هذا يكون قوله "عزة" مبتدأ أول وقوله "غريمها" مبتدأ ثانيًا، وقوله "ممطول" خبر المبتدأ الثاني تقدم عليه، وقوله "معنى" خبرًا ثانيًا للمبتدأ الثاني، وجملة المبتدأ الثاني وخبريه في محل رفع خبر المبتدأ الأول، ومن هذا تعلم أن الاسمين المتقدمين -وهما قوله "ممطول" وقوله "معنى"- ليسا عاملين لأنهما خبران، والاسم المتأخر -وهو قوله "غريمها"- ليس معمولا؛ لأنه مبتدأ، والمبتدأ ليس معمولا لخبره إلا على قول ضعيف، وكأن الشاعر قد قال: وعزة غريمها ممطول معنى.
اسم الکتاب : الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين المؤلف : الأنباري، أبو البركات الجزء : 1 صفحة : 77