اسم الکتاب : العرب في صقلية المؤلف : إحسان عباس الجزء : 1 صفحة : 253
واهتدى إليها برائحتها الجميلة، وإلى جانبه نديم متفرس عارف بالخمر يستطيع أن يحسب عمرها من رائحتها.
في كل حين وقفة عند الخمر، تتردد فيها المعاني الخمرية التي اشرت إليها من قبل نى الخمر الصقلي عامة، وهي اجتماع العنصرين، وفكرة الشبكة والصيد، واستمداد بعض الصور الحربية في قتل الخمر للهموم أو شنها الغارة عليها. وليست هنا وقفة عند الخمار أو الساقية أو الندامى أو لون الخمر وأثرها بقدر الوقوف عند رائحتها، فهي التي هدت الشاربين إلى نفسها بما أذاعته من سر لأنوفهم، وهي عديل المسك في دراين، والمتفرس فيها يزكيها برائحتها وشم طيبها.
وتمام ذلك المجلس الخمري صورة القيان والمغنيات والراقصة، والقاعة مضاءة بالشموع التي تحمل الدجى على رأسها، وتحاول أن تهتك أستار الظلام بالنور، وكأن الآجال مسلطة على أعمارها فهي تنمحق ولا تفنى في يسر. ولم يقل ابن حمديس إن هذه الشموع مثله تسعى إلى الفناء مع أنه كان يحس بمر الزمن ويعد عمره عدا. ولم يتعز بمنظرها وهي تموت فقد كان يريد أن يبعد فكرة الموت عن نفسه لأن الموت لا يتفق والشباب، وهو في هذه القصيدة يصور الشباب. ولكنه في واقع أمره كتلك الشموع - حمل مسئولية الأسى على رأسه طيلة عمره، من شدة أسفه على وطنه وشبابه فيه، حتى ليقول لنا إن الناس قد بكوا الشباب ولم ينصفوه، وجاء هو يستدرك ما فات الناس جميعاً [1] :
بكى الناس قبلي فقد الشباب ... بدمع القلوب فما أنصفوه
وإني عليه لمستدرك ... من البث والحزن ما أهملوه وهو كتلك الشموع صهر نفسه شعراً حزيناً منيراً بصدق العاطفة، وهو الذي ينمحق عمره بما سلطه عليه من أجل.
وقد اختلفت هذه القصيدة في النغمة عن سابقتها فليس لها ذلك الشكل [1] القصيدة رقم 327.
اسم الکتاب : العرب في صقلية المؤلف : إحسان عباس الجزء : 1 صفحة : 253