اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 331
ممن تقوم عبادته خلف أستار وأسرار، ولكنه إله يشهد الناس آياته دون حجاب، ولهم أن يعبدوه حيثما سقط من كوكبه على الأرض شعاع، ونزه فنانوه ربهم عن أن يرمزوا إليه بهيئة إنسان أو جسم إنسان ورأس حيوان، وآثروا له رمز كوكب الشمس بكل ما فيه من قدرة ربانية مستترة وجسم ظاهر مضيء تصدر عنه أشعة عدة، وبمعنى أصح أيد عدة بأكف مبسوطة تمتد على الأرض لتهبها الحياة، وكان رمزًا قديمًا جديدًا في آن واحد، قديمًا في هيئة قرص الشمس، جديدًا بهيئة الأيدي التي بدأ تصويرها منذ عهد تحوتمس الرابع. ويبدو أن الفنانين لم يروا في تصوير أكف الإله المبسوطة انتقاصًا من روحانيته، واعتبروا تصويرها نوعًا من التعبير الفني يغني عن الوصف والكتابة، وشابههم في ذلك فنانو عصر النهضة المسيحيون فيما بعد حين صوروا يد الله بين الغمام ونحتوا لها التماثيل ..
وبدأ أمنحوتب بنفسه، فتبرأ من لفظ آمون في اسمه، وسمى نفسه آخناتون، ربما بمعنى المخلص لآتون أو النافع لآتون أو المجد لآتون، وتختلف هذه الترجمات المقترحة عن الترجمات الأخرى الشائعة. وهاجر بأهله وأتباعه من العاصمة القديمة "طيبة" إلى أرض وصفها بأنها أرض بكر طهور لم يدنسها شرك في العبادة، ولم يعبد فيها من قبل إله أو إلهة، تتوسط أراضي القطر، وتقوم على أنقاضها بلدة العمارنة الحالية، وسماها "آخيتاتون" بمعنى أفق آتون أو مشرق آتون.
وخرجت أناشيد الدين الجديد تناجي ربها بالود والحب والتبجيل، وقالت فيما قالت: "تجليك في أفق السماء بديع، وآتون الحي أصل الحياة ... أنت البهي، أنت الجليل، أنت المنير، أنت العلي فوق كل أرض ... ".
وعرضت الأناشيد منن الإله الظاهرة في حجج فطرية مقنعة، استخدمت المقابلة فيها بين حال الأرض وأهلها حين غياب نور كوكب الرب وحين ظهروه، فكلما غاب أظلم الكون وأصبح كالموات. وهجع الخلق، وخيف النهب، واستشرى الوحش، ودبت الزواحف. فإذا أشرق آتون بدل الحال غير الحال، فشتت الظلمة وبسط الأشعة وكفل الأمن ويسر السعي. "وظهرت نفس الحجج ضمن ما رددته فيما بعد مزامير العبرانيين، مما دعا ببعض الباحثين الغربيين مثل برستد وجريفث وغيرهما إلى الربط بينهما واعتبار الأناشيد المصرية أصلًا لها".
وكانت مذاهب الدين القديم قد ربطت بين الإله وعباده بروابط شتى، فتخيرت الدعوة الجديدة من هذه الروابط، روابط العطف والحب، وأعلنت أن ربها عظيم المحبة، وأنه أم وأب لكل من خلق، وله يسبح البشر والحيوان والطير والنبات، كل منهم بطريقته وتسبيحه، وقالت: "الزهر ونبت الأرض ينفتح لمرآك، وتتملكه النشوة لمحياك، والأنعام تتراقص على أقدامها، والطيور في أوكارها تطوي أجنحتها وتنشرها تسبيحًا لآتون الحي خالقها .. ، الأرض بأسرها عامرة بحبك، والعشب والشجر يتمايل لمطلع وجهك، وأسماك الماء تتراقص لرؤيتك .. ".
اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 331