قال: نحن في كلا الدارين.. فقد
جعل الله تعالى هذه الدار دارا لعرض نماذج عن فضله، كما أنها الدار التي كلف فيها
الخلق.. ولا تناقض بين الأمرين.
قلت: كيف هذا.. والتكليف قد
يقتضي البلاء.
قال: والبلاء لا يتعارض مع
الضيافة، بل حتى العقوبة نفسها لا تتعارض مع الضيافة.. ألم يأمر a بالإحسان إلى الأسير، ألم تر أن الله
تعالى لما قدر على بني إسرائيل عقوبة التيه أدركهم برحمته ولطفهم، فوفر لهم في
التيه أقواتهم وأرزاقهم التي لا تقوم حياتهم إلا بها، بل جعل فيها من اللذة ما
يغريهم بأكلها مع أنهم في وسط العقوبة.
قلت: بلى، فقد قال تعالى
ممتنا عليهم:﴿
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ
وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ
كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة:57)
قال: فهذه الآية تدل على أنه لا يجوز معاقبة أي أحد بحرمانه من
الأكل، فإن الله تعالى مع عقاب بني إسرائيل بالتيه وفر لهم فيه ما يكفيهم من
الرزق.
قلت: أجل.. ولهذا مع تعدد العقوبات الشرعية، وتنوعها لا نرى عقوبة
تمنع الإنسان حاجياته الأساسية.
قال: ولهذا لا يجوز أن يحرم أي إنسان أي طعام على نفسه، لأن الله
تعالى هو وحده المستأثر بالتحليل والتحريم.
قلت: ولكن الله تعالى قال:﴿ كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ
لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾(آل عمران:93)، فقد روي أنه (مرض مرضاً شديداً، وطال
سقمه فنذر للّه نذراً لئن شفاه اللّه من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه،
وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل، وأحب الشراب إليه ألبانها)
وقد أقره الله تعالى على ذلك، وأخبر أن بني إسائيل اتبعوه على ذلك قبل
أن تنزل التوراة.