اسم الکتاب : الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس المؤلف : عماد الدين الكاتب الجزء : 1 صفحة : 304
دخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ودخلت سنة ثمان وثمانين وخمسمائة والسلطان مقيم بالقدس في دار الاقساء جوار (قمامة)، وأظهر بها لتقوية البلد الإقامة. وقد قسم سور البلد على أولاده، وأخيه وأجناده. فشرعوا في إنشاء سور جديد، محدق به مديد. وكان يركب كل يوم مصح، مشمس مضح، فينقل الصخر على قربوس سرجه، فيستن الأكابر والأمراء في نقل الحجارات بنهجه، فلو رأيته وهو يحمل حجرا في ججره؛ لعرفت أن له قلبا كم حمل جبلا في فكره. ولقد جد في حماية الصخرة المقدسة حتى حمل لها الصخور، وانشرح صدره لانضمامها إلى صدره، حتى باشر صدور ممالكه بها الصدور. وما تغلو دار يبنيها في الجنة بنقل حجارتها، ليكون ملكا في دارها وقمرا في دارتها.
وكل بناء قلت حجارته، ووقفت عمارته؛ ركب وبكر اليه، وجمع الحجر بنفسه وأجناده عليه، فإذا اكتفى انتقل إلى موضع آخر ونقل إليه الحجر، ولقد بنى به في غرفات الجنات الحجر، وأثر رواة سيرته الحسنة منه الأثر، وما أعمر إحسانه وأحسن ما عمر! وداوم البكور بالركوب، وعرض وجهه الكريم للشحوب، والتزم الأمر التزام الوجوب. ولأن له الصخر لين الحديد لداود، وجد في فض جدته وأفاض الجود.
وكان حجر الخندق صلدا لا يتأتى قطعه، ولا يتهيأ بكل آلة صدعه. فاتخذ من الفولاذ قطاعات واخترع على الحدادين آلات. فأمكن الصلد، ووهن الجلد. وتيسر الصعب، ولأن الصلب. وصرخ الصخر، لما حاف الحفر. وضج الحديد لجلد الجلمود، وصفا قلب الصفا لإصاخة الصيخود وأعولت المعاول، وجدلت الجنادل. وسمعت الصماء صوت السطو، وخرج جرح الإساءة إليها عن الأسو. وفلقت القطع وقطعت الفلق، واتسع الضيق وتعمق الخندق.
وطاب العمل، وطال الأمل. وحز الحزم وحزن الحزن، وركنت القوة وقوى الركن. فلا ترى إلا سورا يعلو وخندقا يسفل، وبناء يسمو وحفرا ينزل. وبرجا يسقف، وبدنا يشرف، وبدنا يشرف. وحجارة تبني، وعمارة تثنى. وكلسا يحرق، وأسا يوثق. وطاقا يعقد، ورواقا يمهد. وطلاقات تطلق، ومرامي تخرق. وستائر تحجر، وحفائر تقعر. ومصاعد تهندس وقواعد تؤسس. ومعارج تسفح، ومخارج تفسح. وموالج تسرب، ومدارج ترقب. حتى أحكم المكان بكل ما في الامكان، واتصلت الأبراج بالأبدان، مشيدة الأركان.
والسلطان يشرف في كل يوم على عمل قوم. فيمدحهم بإحسانهم، ويجازيهم بإحسانه، ويعير جنان المتولي من قوة جنانه. ويدركه بما يستأنفه من عمله، ويحلى بالفضل ما يبدو له من عطله. وكان ذلك دأبه مدة إقامته، وقد جد غرامه بغرامته. بل يرى أن كل مال ينفقه باق، وأنه إن فاق كريم فبانفاق، وما عنده خشية إملاق، بل يده جارية بإطلاق جوائز وأرزاق، وأنه تتجلى له أعماله الصالحة يوم يكشف عن ساق. وإن وفق الله واستمر ما دبره في حفر الخندق وبناء السور؛ بقي بيت
اسم الکتاب : الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس المؤلف : عماد الدين الكاتب الجزء : 1 صفحة : 304