اسم الکتاب : الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس المؤلف : عماد الدين الكاتب الجزء : 1 صفحة : 255
كعوب القنا. وفتك كما تمنته المنية، ورمى كما حنت إليه الحنية. هذا ومجانيق الكفر على الغي مقيمة، وللرمي مديمة. وبالأحجار متقاطرة، وعلى الأقطار حاجرة. وللجلاميد بالجلاميد قارعة، وللصخور بالصخور قالعة.
وتمكن الفرنج بها من الخندق، فدنوا منه دنو المحنق. وشرعوا هجمه، وأسرعوا إلى طمه. وداموا يرمون فيه جثث الأموات، وجيف الخنازير والدواب النافقات. حتى صاروا يلقون فيه قتلاهم، ويحملون إليه موتاهم. وأصحابنا في مقابلتهم ومقاتلتهم قد أقسموا فريقين، وافترقوا قسمين. ففريق يلقى من الخندق ما ألقى فيه، وفريق يقارع العدو ويلاقيه.
ذكر وصول ملك الانكتير
وفي يوم السبت ثالث عشر الشهر المذكور، أشاع أشياع الكفر سر السرور، وعقدوا حبا الحبور. ووصل ملك الانكتير، وأظهروا إنه في الجمع الكثير، والجم الغفير. وكانت معه من الشواني خمس وعشرون قطعة، كل واحدة منها تضاهي تلعة، وتوازي قلعة، واحدث في القلوب روعة، وأرث في النفوس لوعة.
ولمعت لنا من خيامهم تلك الليلة نيران زائدة، وأنفاس للشرار متصاعدة. والسنة للشعل نضناضة، واشعة على الجو مفاضة. فإنما أوردت الجحيم لقدوم وارد
نارها نارها، وأوصلت لوصول أولئك الشرار شرارها، وأورت لهم أوراها. وشاهدنا تلك البسيطة قد بسكت على أهل الدياجير الأضواء، وهتكت عنها لهتك ستر الظلام ضلالهم الظلماء.
فعرفنا كثرتهم بكثرة نيرانهم، ولما كانوا من أهل النار (قامت النار) ببرهانهم، وأتتهم باتيانهم، واضافتهم في مكانهم، وملك الملك بأمره أمرهم، واراهم أن بيده نفعهم وضرهم. وملأ عين الملاعين، وأطال لتطاولهم أشطان الشياطين. وحفر للمكايد آبارا، وأثر في المكر آثارا، وأرث للشر نارا، وأثار لنصرة النصرانية ثارا.
وتحدث الناس بحادثه وحديثه، وبما تأثرت القلوب به من تأثيره وتأريثه، وارتابوا وارتاعوا، والتاحوا والتاعوا. وغدت الألسنة ترجف والقلوب تجف. وكاد الباسل يجين، والباطل يخشن. والحق يلين، والدين يدين.
والسلطان قوي الجنان، روى الإيمان. صاف يقينه، واف دينه. شاف نصحه، كاف نجحه، مسفر لعين الإسلام ضبحه، مسرف في قلب الكفر جرحه. ماض عزمه، قاض حكمه، مثبت جيشه بثبات جاشه، عامل لمعاده، ونصر الحق في معاشه. متأن في تفكره، متأت في تدبره متوكل على ربه في نصرة دينه، متوسل إليه في تأييده وتمكينه. لا تروعه المخافات، ولا تخيفه الرائعات. ولا تزعزع الخطوب طود وقاره، ولا تفض النوائب ختم ذماره. ولا يلين للشدائد ولا يستكين للروائع الرواعد. وكم سكن الإسلام بحركاته، وأخصبت الأيام ببركاته، ونام الأنام ليقظاته، وأمنت مصر والشام
اسم الکتاب : الفتح القسي في الفتح القدسي = حروب صلاح الدين وفتح بيت المقدس المؤلف : عماد الدين الكاتب الجزء : 1 صفحة : 255