responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 149
لِأَنَّ الطَّاعَةَ لَا تَكُونُ طَاعَةً إِلَّا عِنْدَ هَذِهِ الرَّهْبَةِ وَالرَّغْبَةِ، وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ الْبَانِيَ لَمَّا بَنَى ذَلِكَ الْبِنَاءَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّهْبَةِ مِنْ عِقَابِهِ، وَالرَّغْبَةِ فِي ثَوَابِهِ، كَانَ ذَلِكَ الْبِنَاءُ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ مِنَ الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ الْبَانِي لِدَاعِيَةِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالْإِضْرَارِ بِعِبَادِ اللَّهِ، أَمَّا قَوْلُهُ: أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ جُرُفٍ سَاكِنَةَ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ، جُرُفٌ وَجُرْفٌ كَشُغُلٍ وَشُغْلٍ وَعُنُقٍ وَعُنْقٍ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الشَّفَا الشَّفِيرُ، وَشَفَا الشَّيْءِ حَرْفُهُ، وَمِنْهُ يُقَالُ أَشَفَى عَلَى كَذَا إِذَا دَنَا مِنْهُ، وَالْجُرُفُ هُوَ مَا إِذَا سَالَ السَّيْلُ وَانْحَرَفَ الْوَادِي وَيَبْقَى عَلَى طَرَفِ السَّيْلِ طِينٌ وَاهٍ مُشْرِفٌ عَلَى السُّقُوطِ سَاعَةً فَسَاعَةً. فَذَلِكَ الشَّيْءُ هُوَ الْجُرُفُ، وَقَوْلُهُ: هارٍ قَالَ اللَّيْثُ: الْهَوْرُ مَصْدَرُ هَارَ الْجُرُفُ يَهُورُ، إِذَا انْصَدَعَ مِنْ خَلْفِهِ، وَهُوَ ثَابِتٌ بَعْدُ فِي مَكَانِهِ، وَهُوَ جُرُفٌ هَارٌ هَائِرٌ، فَإِذَا سَقَطَ فَقَدِ انْهَارَ وَتَهَوَّرَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فَنَقُولُ: الْمَعْنَى أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَ دِينِهِ عَلَى قَاعِدَةٍ قَوِيَّةٍ مُحْكَمَةٍ وَهِيَ الْحَقُّ الَّذِي هُوَ تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانُهُ خَيْرٌ، أَمَّنْ أَسَّسَ عَلَى قَاعِدَةٍ هِيَ أَضْعَفُ الْقَوَاعِدِ وَأَقَلُّهَا بَقَاءً، وَهُوَ الْبَاطِلُ؟ وَالنِّفَاقُ الَّذِي مِثْلُهُ مِثْلُ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ فَلِكَوْنِهِ شَفا جُرُفٍ هارٍ كَانَ مُشْرِفًا عَلَى السُّقُوطِ، وَلِكَوْنِهِ عَلَى طَرَفِ جَهَنَّمَ، كَانَ إِذَا انْهَارَ فَإِنَّمَا يَنْهَارُ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ، وَلَا نَرَى فِي الْعَالَمِ مِثَالَا أَكْثَرَ مُطَابَقَةً لِأَمْرِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ هَذَا الْمِثَالِ! وَحَاصِلُ الْكَلَامِ أَنَّ أَحَدَ الْبِنَاءَيْنِ قَصَدَ بَانِيهِ بِبِنَائِهِ تَقْوَى اللَّهِ وَرِضْوَانَهُ، وَالْبِنَاءَ الثَّانِيَ قَصَدَ بَانِيهِ بِبِنَائِهِ الْمَعْصِيَةَ وَالْكُفْرَ، فَكَانَ الْبِنَاءُ الْأَوَّلُ شَرِيفًا وَاجِبَ الْإِبْقَاءِ، وَكَانَ الثَّانِي خَسِيسًا وَاجِبَ الْهَدْمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ بِنَاءَ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ صَارَ سَبَبًا لِحُصُولِ الرِّيبَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، فَجَعَلَ نَفْسَ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ رِيبَةً لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلرِّيبَةِ. وَفِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلرِّيبَةِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُنَافِقِينَ عَظُمَ فَرَحُهُمْ بِبِنَاءِ مَسْجِدِ الضِّرَارِ، فَلَمَّا أَمَرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَخْرِيبِهِ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَازْدَادَ بُغْضُهُمْ لَهُ وَازْدَادَ ارْتِيَابُهُمْ فِي نُبُوَّتِهِ. الثَّانِي: أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَمَرَ بِتَخْرِيبِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ ظَنُّوا أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ لِأَجْلِ الْحَسَدِ، فَارْتَفَعَ أَمَانُهُمْ عَنْهُ وَعَظُمَ خَوْفُهُمْ مِنْهُ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ، وَصَارُوا مُرْتَابِينَ فِي أَنَّهُ هَلْ يَتْرُكُهُمْ عَلَى مَا هُمْ فِيهِ/ أَوْ يَأْمُرُ بِقَتْلِهِمْ وَنَهْبِ أَمْوَالِهِمْ؟ الثَّالِثُ: أَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ كَانُوا مُحْسِنِينَ فِي بِنَاءِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَمَرَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَخْرِيبِهِ بَقُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي أَنَّهُ لِأَيِّ سَبَبٍ أَمَرَ بِتَخْرِيبِهِ؟ الرَّابِعُ: بَقُوا شَاكِّينَ مُرْتَابِينَ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَلْ يَغْفِرُ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ؟ أَعْنِي سَعْيَهُمْ فِي بِنَاءِ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ، وَالصَّحِيحُ هُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ.
ثُمَّ قَالَ: إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةُ أَنْ تَقَطَّعَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالطَّاءِ مُشَدَّدَةً بِمَعْنَى تَتَقَطَّعُ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ تَقَطَّعَ بِفَتْحِ الطَّاءِ وَتَسْكِينِ الْقَافِ قُلُوبِهِمْ بِالنَّصْبِ أَيْ تَفْعَلُ أَنْتَ بِقُلُوبِهِمْ هَذَا الْقَطْعَ، وَقَوْلُهُ: تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أَيْ تُجْعَلُ قُلُوبُهُمْ قِطَعًا، وَتُفَرَّقُ أَجْزَاءً إِمَّا بِالسَّيْفِ وَإِمَّا بِالْحُزْنِ وَالْبُكَاءِ، فَحِينَئِذٍ تَزُولُ تِلْكَ الرِّيبَةُ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ الرِّيبَةَ بَاقِيَةٌ فِي قُلُوبِهِمْ أَبَدًا وَيَمُوتُونَ عَلَى هَذَا النِّفَاقِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا تَوْبَةً تَنْقَطِعُ بِهَا قُلُوبُهُمْ نَدَمًا وَأَسَفًا عَلَى تَفْرِيطِهِمْ. وَقِيلَ حَتَّى تَنْشَقَّ قُلُوبُهُمْ غَمًّا وَحَسْرَةً، وَقَرَأَ الْحَسَنُ إِلَى أَنْ وَفِي قِرَاءَةِ

اسم الکتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير المؤلف : الرازي، فخر الدين    الجزء : 16  صفحة : 149
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست